الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1999 57 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخله، فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قد مر في أول الباب، وقال الكرماني: الاشتراء أعم من التجارة فكيف يدل على الخاص الذي هو التجارة التي عقد عليها الباب؟ فأجاب بأن حرمة الجزء مستلزمة لحرمة الكل، وهو من باب إطلاق الكل [ ص: 224 ] وإرادة الجزء.

                                                                                                                                                                                  ورجاله مشهورون، مذكورون غير مرة.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في النكاح، عن إسماعيل بن عبد الله، وفي اللباس عن القعنبي، وفي اللباس أيضا عن حجاج بن منهال، وفي بدء الخلق عن محمد هو ابن سلام، عن مخلد هو ابن يزيد. وأخرجه مسلم في اللباس عن يحيى بن يحيى، عن مالك به، وعن إسحاق بن إبراهيم، وعن عبد الوارث بن عبد الصمد، وعن قتيبة بن سعيد، وعن محمد بن رمح، وعن هارون بن سعيد، وعن أبي بكر بن إسحاق.

                                                                                                                                                                                  قوله: "نمرقة" بضم النون والراء، ضبطه ابن السكيت هكذا، وضبطها أيضا بكسر النون والراء وبغير هاء، وجمعها نمارق، وقال ابن التين: ضبطناها في الكتب بفتح النون وضم الراء، وقال عياض وغيره: هي وسادة. وقيل: مرفقة. وقيل: هي المجالس، ولعله يعني الطنافس، وفي (المحكم): النمرق والنمرقة قد قيل: هي التي يلبسها الرجل، وفي (الجامع): النمرق تجعل تحت الرحل، وفي (الصحاح): النمرقة وسادة صغيرة، وربما سموا الطنفسة التي تحت الرحل نمرقة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الصور" بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة، الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته، يقال: صورة الفعل كذا وكذا، أي هيئته، وصورة الأمر كذا وكذا، أي صفته.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أحيوا" بفتح الهمزة أمر تعجيز من الإحياء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ما خلقتم" أي صورتم كصورة الحيوان.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لا تدخله الملائكة" أي غير الحفظة. وقيل: ملائكة الوحي، وأما الحفظة فلا تفارقه إلا عند الجماع والخلاء، كما أخرجه ابن عدي وضعفه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): وهو على وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن بيع الثياب التي فيها الصور المكروهة، فظاهر حديث عائشة أن بيعها لا يجوز، لكن قد جاءت آثار مرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على جواز بيع ما تمتهن فيها الصورة، منها ستر عائشة فيه تصاوير، فهتكه - صلى الله عليه وسلم - فجعلته قطعتين، فاتكأ - صلى الله عليه وسلم - على إحداهما، رواه وكيع عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عنها، فإذا تعارضت الآثار فالأصل الإباحة حتى يرد الحظر، ويحتمل أن يكون معنى حديث عائشة في النمرقة - لو لم يعارضه غيره - محمولا على الكراهة دون التحريم، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسخ البيع في النمرقة التي اشترتها عائشة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن تصوير الحيوان حرام، واختلفوا في هذا الباب:

                                                                                                                                                                                  فقال قوم من أهل الحديث وطائفة من الظاهرية: التصوير حرام، سواء في ذلك تصوير ذي روح وغيره، واحتجوا في ذلك بظاهر حديث عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" رواه مسلم وغيره.

                                                                                                                                                                                  وقال الجمهور من الفقهاء وأهل الحديث: كل صورة لا تشبه صورة الحيوان كصور الشجر والحجر والجبل ونحو ذلك، فلا بأس بها، واحتجوا في ذلك بما رواه مسلم قال: قرأت على نصر بن علي الجهضمي، عن عبد الأعلى قال: حدثنا يحيى بن إسحاق، عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال: ادن مني، ثم قال: ادن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسا، فيعذبه في جهنم، وقال: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له" فأقر به نصر بن علي. والدليل على ذلك ما رواه الطحاوي من حديث مجاهد، عن أبي هريرة قال: "استأذن جبريل عليه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادخل، فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تماثيل خيل ورجال؟ فإما أن تقطع رؤوسها وإما أن تجعلها بساطا; فإنا - معشر الملائكة - لا ندخل بيتا فيه تماثيل" قال الطحاوي: فلما أبيحت التماثيل بعد قطع رؤوسها الذي لو قطع من ذي الروح لم يبق، دل ذلك على إباحة تصوير ما لا روح له، وعلى خروج ما لا روح لمثله من الصور مما قد نهي عنه في الآثار.

                                                                                                                                                                                  الثالث: فيه أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وقد مر عن قريب أن المراد من الملائكة غير الحفظة، وقال النووي: أما الملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والاستغفار، وقال الخطابي: إنما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمنع دخول الملائكة بسببه. وأشار القاضي إلى نحو ما قال الخطابي. والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة، وأنهم يمنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث، قاله النووي، وقال أيضا: ولأن الجرو الذي كانت في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت [ ص: 225 ] السرير كان له فيه عذر ظاهر; فإنه لم يعلم به، ومع هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت، وعلل بالجرو، فلو كان العذر في وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل عليه السلام. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): العلم وعدمه لا يؤثر في هذا الأمر، والعلة في امتناعهم عن الدخول وجود الصورة والكلب مطلقا. والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية