الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب حد القذف عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله وكل حدثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني وبعض حديثهم يصدق بعضا " ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه قالت عائشة فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه ، قالت وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم . إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم نقل الهودج حين رحلوه ورفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعوا إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن معطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فادلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي والله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أراه منه حين أشتكي إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة ابن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت تسبين رجلا شهد بدرا قالت أي هنتاه ألم تسمعي ما قال ، قلت وماذا قال ؟ فأخبرتني . بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال كيف تيكم ؟ قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي يا هنتاه ما يتحدث الناس ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت سبحان الله أو قد تحدث الناس بهذا ؟ ، قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود ، فقال يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك ، قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة قالت له بريرة والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية فقال لسعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت ، قالت وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي قالت فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس قالت ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل وقد لبث شهرا لا يوحى إليه : في شأني شيء ، قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال أما بعد : يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه ، قالت فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فقال والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن ، والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فإن قلت لكم أني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة تصدقوني وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون قالت ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة والله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، قالت فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله عز وجل على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال أبشري يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي فأنزل الله عز وجل إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم عشر آيات فأنزل الله عز وجل هذه الآيات براءتي قالت فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله عز وجل ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى ألا تحبون أن يغفر الله لكم فقال أبو بكر والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال لا أنزعها منه أبدا قالت عائشة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب ابنة جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري ما علمت أو ما رأيت قالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك قال ابن شهاب فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط وفي رواية علقها البخاري ووصلها مسلم وكان الذين تكلموا به مسطح وحمنة وحسان وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو الذي كان يستوشيه ويجمعه وهو الذي تولى كبره وحمنة : ولأصحاب السنن لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا يعني القرآن فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق (قلت) : في رواية البيهقي تصريح ابن إسحاق بالتحديث .

                                                            [ ص: 56 ]

                                                            التالي السابق


                                                            باب حد القذف عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك [ ص: 47 ] ما قالوا فبرأها الله وكل حدثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني وبعض حديثهم يصدق بعضا ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الحديث وزاد فيه أصحاب السنن فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم : قال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق (قلت) : وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث في رواية البيهقي

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) : هذا الذي فعله الزهري من جمعه هذا الحديث عن هؤلاء الجماعة لا منع منه ولا كراهة فيه ؛ لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم وهؤلاء الأربعة أئمة حفاظ ثقات من أجل التابعين ، فإذا ترددنا في قطعة من هذا الحديث هل هي عن هذا أو ذاك لم يضر وجاز الاحتجاج بها ؛ لأنهما ثقتان .

                                                            قال النووي وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثني زيد أو عمير وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب جاز الاحتجاج به وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنه انتقد هذا على الزهري قديما وقال كان الأولى أن يذكر حديث كل واحد منهم بجهته قال ولا درك على الزهري في شيء منه ؛ لأنه قد بين ذلك في حديثه والكل ثقات وقال النووي أجمع المسلمون على قبول ذلك من الزهري والاحتجاج به . .



                                                            (الثانية) : الإفك الكذب [ ص: 48 ] وفيه لغتان كسر الهمزة وإسكان الفاء وفتحهما معا كنجس ونجس حكاهما في المحكم والمشارق والمراد به هنا ما كذب عليها ممار ميت به .

                                                            (الثالثة) : قوله (وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض) : وأثبت اقتصاصا أي أحفظ وأحسن إيرادا وسردا للحديث .

                                                            (الرابعة) : قولها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه : هو دليل مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء في العمل بالقرعة في القسم بين الزوجات وفي العتق والوصايا والقسمة بين الشركاء ونحو ذلك وقد جاءت فيها أحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة قال أبو عبيد عمل بها ثلاثة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليهم وسلم قال ابن المنذر واستعمالها كالإجماع بين أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء ولا معنى لقول من ردها والمشهور عن أبي حنيفة إبطالها وقال القاضي عياض إنه مشهور مذهب مالك وأصحابه ؛ لأنها من باب الخطر والقمار وهو قول بعض الكوفيين وقالوا هي كالأزلام وحكي عن أبي حنيفة إجازتها قال ابن المنذر ولا يستقيم في القياس لكنا تركنا القياس للأثر ومقتضى هذا قصرها على المواضع الواردة في الأحاديث دون تعديتها إلى غيرها وهو محكي عن أبي حنيفة ومالك والمغيرة .



                                                            (الخامسة) : وفيه القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وآخرون ومنعوا السفر ببعضهن بغير قرعة وهو رواية عن مالك وعنه رواية أن له السفر بمن شاء منهم بغير قرعة ؛ لأنها قد تكون أنفع له في [ ص: 49 ] طريقه والأخرى أنفع له في بيته وماله قال أبو العباس القرطبي والذي يقع لي أن هذا ليس بخلاف في أصل القرعة في هذا ، وإنما هذا لاختلاف أحوال النساء ، فإذا كان فيهن من تصلح للسفر ومن لا تصلح تعين من تصلح ولا يمكن أن يقال يجب أن يسافر بمن لا تصلح ؛ لأن ذلك ضرر أو مشقة عليه ولا ضرر ولا ضرار : وإنما تدخل القرعة إذا كان كلهن صالحات للسفر فحينئذ تتعين القرعة ؛ لأنه لو أخرج واحدة منهن بغير قرعة لخيف أن يكون ذلك ميلا إليها ولكان للأخرى مطالبته بحقها من ذلك ، فإذا خرج بمن وقعت عليها القرعة انقطعت حجة الأخرى وارتفعت التهمة عنه وطاب قلب من بقي منهن والله أعلم .



                                                            (السادسة) : قولها فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي : فيه خروج النساء في الغزو ؛ قال ابن عبد البر وخروجهن مع الرجال في الغزو مباح إذا كان العسكر كثيرا تؤمن عليه الغلبة وفي الصحيح من حديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى .

                                                            (السابعة) : هذه الغزاة هي غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع وكانت سنة ست من الهجرة وسنزيد ذلك إيضاحا وبه يعلم أنها لم تخرج معه وحدها بل خرجت في تلك الغزوة أيضا أم سلمة كما هو معروف في السير .



                                                            (الثامنة) : قولها فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا : بضم أولهما على البناء للمفعول وفيه جواز ركوب النساء في الهوادج وجواز خدمة الرجال لهن في ذلك [ ص: 50 ] وفي الأسفار و (الهودج) : بفتح الهاء القبة التي تكون فيها المرأة على ظهر البعير .



                                                            (التاسعة) : قولها آذن ليلة بالرحيل : روي بالمد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها أي أعلم وفيه أن ارتحال العسكر يتوقف على إذن الأمير .

                                                            (العاشرة) : قولها فإذا عقد من جزع ظفار وقد انقطع : (العقد) : بكسر العين وإسكان القاف كل ما يعقد ويعلق في العنق وهو نحو القلادة و (الجزع) : بفتح الجيم وإسكان الزاي وآخره عين مهملة خرز يمان ( وظفار ) : بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء قرية باليمن وهي مبنية على الكسر تقول هذه ظفار ودخلت ظفار وإلى ظفار بكسر الراء بلا تنوين في الأحوال كلها وقال أبو العباس القرطبي هكذا في صحيح الرواية ومن قيده جزع أظفار بألف فقد أخطأ وبالوجه الصحيح رويته .

                                                            (الحادية عشرة) : قولها وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي : (الرهط) : جماعة دون العشرة وقوله يرحلون : بفتح الياء وإسكان الراء وفتح الحاء المهملة المخففة أي يجعلون الرحل على البعير وهو معنى قولها فرحلوه وهو بتخفيف الحاء أيضا وقولها بي : كذا ضبطناه في أصلنا بالباء وحكاه النووي عن بعض نسخ مسلم وقال إن الذي في أكثرها لي : وهو أجود (قلت) : بل يظهر أن الباء أجود ، فإنه ليس المراد هنا وضع الرحل على البعير بل وضعها وهي في الهودج على البعير تشبيها للهودج التي هي فيه بالرحل الذي يوضع على البعير .

                                                            (الثانية عشرة) : قولها وكانت النساء إذ ذاك خفافا لا يهبلن : ضبطت هذه اللفظة بأوجه (أشهرها) : كما قال النووي بضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة أي يثقلن باللحم والشحم (والثاني) : يهبلن بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما .

                                                            و (الثالث) : [ ص: 51 ] بفتح الياء وضم الباء الموحدة وذكر أبو العباس القرطبي أن هذا هو الصواب أي بتقدير فتح أوله قال ؛ لأن ماضيه فعل قال النووي ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الباء الموحدة قال أهل اللغة يقال هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وكثر لحمه وشحمه وفي رواية البخاري لم يثقلن وهو بمعناه وهو أيضا المراد بقولها ولم يغشهن اللحم (قلت) : لا ينبغي على ما جوزه النووي كسر الباء الموحدة بل هي مفتوحة والتفاوت بينه وبين الرواية المشهورة فتح الهاء في الرواية وتشديد الباء وفي التجويز الهاء ساكنة والباء مخففة وهي مفتوحة على التقديرين وكيف يكسر مع بناء الفعل للمفعول ، قال القرطبي وفي بعض الروايات عن ابن الحداء لم يهبلهن اللحم : بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الباء المكسورة قال ، وهذه الرواية هي المعروفة في اللغة قال في الصحاح هبله اللحم إذا كثر عليه وركب بعضه بعضا وأهبله أيضا ثم ذكر حديث عائشة لم يهبلهن اللحم قلت استعمال أهل اللغة قولهم هبله اللحم لا ينافي الرواية الأولى التي قدمنا عن النووي أنها أشهرها ؛ لأنه لما استعمل مبنيا للمفعول من غير ذكر الفاعل تعين أن يفعل فيه ما تقرر في العربية في كل مبني للمفعول وكون المعروف في اللغة التصريح بالفاعل لا التفات إليه فألفاظ الحديث لا تتلقى عن أهل اللغة وإنما تتلقى عن أهل الحديث وتشرح بكلام أهل اللغة وقد عرفت أن كلام أهل اللغة في هذه المادة يشهد للفظ الرواية المشهورة والله أعلم .



                                                            (الثالثة عشرة) : قولها إنما يأكلن العلقة : هو بضم العين المهملة وإسكان اللام وفتح القاف أي القليل ويقال لها أيضا (البلغة) : قال القرطبي وكأنه الذي يمسك الرمق ويعلق النفس .

                                                            [ ص: 52 ] للازدياد منه أي يشوفها إليه وفيه ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من التقلل في العيش وتقليل الأكل . .



                                                            (الرابعة عشرة) : قولها فلم يستنكر القوم ثقل الهودج : لا يخفى أنه ليس المراد أنه حين رحلوه كان ثقيلا بل المراد لم يستنكروا قدر ثقله الذي اعتادوه لخفة بدنها رضي الله عنها فلا يظهر بفقدها رضي الله عنها من الهودج تفاوت في قدر ثقله والله أعلم .

                                                            (الخامسة عشر) : قولها فتيممت منزلي : أي قصدته والتيمم لغة القصد .

                                                            (السادسة عشرة) : قولها وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعوا إلي : كذا وقع في أصلنا فيرجعوا بغير نون والوجه إثباتها وهو المعروف في الرواية ولعله من الجزم بلا جازم كقوله :

                                                            فـــاليوم أشـــرب غـــير مســتعقب إثمـــــا مــــن اللــــه ولا واغــــل

                                                            ، أو له تخريج آخر ؛ وقال القاضي عياض الظن هنا بمعنى العلم قال الله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون

                                                            (السابعة عشرة) : قولها وكان صفوان بن المعطل : هو بفتح الطاء بلا خلاف كذا ضبطه أبو هلال العسكري والقاضي في المشارق وآخرون وقولها قد عرس من وراء الجيش فادلج : التعريس هو النزول آخر الليل في السفر لنوم أو استراحة وقال أبو زيد هو النزول أي وقت كان قال النووي والمشهور الأول وقولها ادلج : هو بتشديد الدال أي سار من آخر الليل ، فإن سار من أوله قيل أدلج بتخفيف الدال وقيل هما لغتان والمشهور الأول قال النووي وفيه جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض له إذا لم تكن ضرورة تدعو إلى الاجتماع .



                                                            (الثامنة عشر) : قولها فرأى سواد إنسان : أي شخصه وقولها فاستيقظت باسترجاعه : أي انتبهت من نومي بقوله (إنا لله وإنا [ ص: 53 ] إليه راجعون) : وإنما قال هذا الكلام لعظم المصيبة بتخلف أم المؤمنين رضي الله عنها عن الرفقة في مضيعة قال القاضي عياض ، وهذا من صفوان لمعنيين :

                                                            (أحدهما) : أنها مصيبة لنسيان امرأة منفردة في قفر وليل مظلم والثاني ليقيمها استرجاعه من نومها صيانة لها عن ندائها وكلامها .

                                                            (التاسعة عشرة) : قولها فخمرت وجهي بجلبابي : أي غطيته بثوبي والجلباب كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها يكون أعرض من الخمار قاله النضر وقال غيره هو ثوب واسع دون الرداء تغطي به المرأة ظهرها وصدرها وقال ابن الأعرابي هو الإزار وقيل الخمار هو كالملاءة والملحفة قال القاضي عياض وبعض هذا قريب من بعض ، وفيه تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحا أو غيره .



                                                            (العشرون) : قولها والله ما يكلمني كلمة إنما عبرت بالمضارع إشارة إلى استمرار ترك الكلام وتجدد هذا الاستمرار ، فإنه قد يفهم من التعبير بالماضي اختصاص النفي بحالة بخلاف المضارع وقولها ولا سمعت منه كلمة : ليس تكرار ، فإنه قد لا يكلمها ولكن يكلم نفسه أو يجهر بقراءة أو ذكر بحيث يسمعها فلم يقع منه ذلك بل استعمل الصمت في تلك الحالة أدبا وصيانة ولهول تلك الحالة التي هو فيها وفيه إغاثة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي الأقدار وحسن الأدب مع الأجنبيات لا سيما في الخلوة بهن عن الضرورة في برية أو غيرها كما فعل صفوان من إبراكه الجمل بغير كلام ولا سؤال وأنه ينبغي أن يمشي قدامها لا بجانبها ولا وراءها واستحباب الإيثار بالركوب .

                                                            (الحادية والعشرون) : قولها وبعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة : الموغر بالغين المعجمة والراء المهملة النازل في وقت الوغرة بفتح الواو . [ ص: 54 ] وإسكان الغين وهي شدة الحر ، وهذه الرواية هي الصحيحة ورواه مسلم من حديث يعقوب بن إبراهيم موعزين بالعين المهملة والزاي قال أبو العباس القرطبي ويمكن أن يقال فيه هو من وعزت إليه أي تقدمت يقال وعزت إليه بالتخفيف وعزا ووعزت إليه بالتشديد توعيزا قال والرواية الأولى أصح وأولى قال وقد صحفه بعضهم فقال موعرين بالعين المهملة والراء ولا يلتفت إليه انتهى . و الظهيرة : وقت القائلة وشدة الحر و نحرها : صدرها أي أولها . .



                                                            (الثانية والعشرون) : قولها فهلك من هلك في شأني : أي بقول البهتان والقذف وقولها وكان الذي تولى كبره : أي معظمه وقيل الكبر الإثم وقيل هو الكبيرة كالخطأ والخطيئة وهو بكسر الكاف على القراءة المشهورة وقرئ في الشاذ بضمها ، وهي لغة وقولها ( عبد الله بن أبي ابن سلول ) : هو برفع ابن سلول ، فإنه ليس صفة لأبي وإنما هو صفة ثانية لعبد الله فأبي أبوه وسلول أمه ولهذا يكتب بالألف و أبي : بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء و سلول : بفتح السين المهملة وضم اللام وإسكان الواو وآخره لام وهو غير مصروف .

                                                            (الثالثة والعشرون) : هذا الحديث صريح في أن المتولي كبر الإفك هو عبد الله بن أبي وهو قول الجمهور وقيل إنه حسان بن ثابت وأن عائشة رضي الله عنها ليمت على دخوله عليها وقد تولى كبره فقالت وأي عذاب أشد من العمى وفي رواية وضرب الحد وفي رواية وضربه بالسيف وأشارت بضربه بالسيف إلى أن صفوان ضرب حسان على رأسه بالسيف وقال

                                                            تلـــق ذبــاب الســيف عنــي فــإنني غلام إذا هــو حــييت لســت بشـاعر

                                                            [ ص: 55 ] وسيأتي أن في رواية في الصحيح وهو أي عبد الله بن أبي الذي تولى كبره وحمنة وحكى عن قوم الضحاك والحسن أن الذي تولى كبره هو البادئ بهذه الفرية والذي اختلقها قال عبد الحق بن عطية في تفسيره وهو على هذا غير معين .

                                                            (الرابعة والعشرون) : قولها والناس يفيضون في قول أهل الإفك : بضم أوله أي يخوضون فيه ويكثرون القول .

                                                            (الخامسة والعشرون) : قولها وهو يريبني : بفتح أوله وضمه يقال رابني وأرابني إذا شككه وأوهمه الأولى لغة الجمهور والثانية لغة هذيل ومعناه أن ذلك يوهمني ويشككني حتى أنكر ذلك من اختلاف حاله عليه الصلاة والسلام معي وقال بعضهم يقال أرابني الأمر يريبني إذا توهمته وشككت فيه ، فإذا استيقنته قلت رابني كذا يريبني . .



                                                            (السادسة والعشرون) : اللطف : بضم اللام وإسكان الطاء ويقال بفتحهما معا لغتان وهو البر والرفق وقوله كيف تيكم : إشارة إلى المؤنثة كذا كم في المذكر وفيه استحباب ملاطفة الإنسان زوجته وحسن معاشرتها إلا أن يسمع عنها ما يكره فيقلل من اللطف لتفطن هي أن ذلك لعارض فتسأل عن سببه فتزيله وفيه استحباب السؤال عن المريض .

                                                            (السابعة والعشرون) : قولها نقهت : هو بفتح القاف وكسرها لغتان حكاهما الجوهري في الصحاح وغيره والفتح أشهر واقتصر عليه جماعة منهم القاضي عياض والناقه هو الذي أفاق من المرض وبرئ منه وهو قريب عهد به لم تتراجع إليه كمال صحته ومن لم يعرف لغة الكسر قال أما بكسر القاف فهو بمعنى فهمت الحديث . .



                                                            [ ص: 56 ] الثامنة والعشرون) : قولها وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا : مسطح بكسر الميم وإسكان السين المهملة وفتح الطاء المهملة وآخره حاء مهملة و المناصع : بفتح الميم بعدها نون وبعد الألف صاد مهملة مكسورة ثم عين مهملة مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها وقد جاء في الحديث نفسه في غير كتاب مسلم وهي صعيد أفيح خارج المدينة و المتبرز : بفتح الراء موضع التبرز وهو الخروج إلى البراز وهو الفضاء من الأرض التي من خرج إليها فقد برز أي ظهر وكني به هنا عن الخروج للحدث وفيه أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن يكون معها رفيقة لتتآنس بها ولا يتعرض لها أحد .

                                                            (التاسعة والعشرون) : قولها وذلك قبل أن نتخذ الكنف : هو بضم الكاف والنون جمع كنيف وهو في الأصل الساتر مطلقا والمراد به هنا الموضع المتخذ لقضاء الحاجة قولها وأمرنا أمر العرب الأول : ضبطوا قوله الأول بوجهين :

                                                            (أحدهما) : ضم الهمزة وتخفيف الواو والثاني فتح الهمزة وتشديد الواو قال النووي وكلاهما صحيح (قلت) : هو على الأول صفة للعرب وعلى الثاني صفة للأمر وقولها في التنزه أي طلب النزاهة بالخروج إلى الصحراء .



                                                            (الفائدة الثلاثون) : قولها وهي ابنة أبي رهم : بضم الراء المهملة وإسكان الهاء واسمها سلمى وتقدم ضبط مسطح وهو لقب وأصله عود من أعواد الخباء واسمه عامر وقيل عوف وكنيته أبو عباد وقيل أبو عبد الله توفي سنة سبع وثلاثين قيل أربع وثلاثين وأبوه أثاثة بضم الهمزة وبعدها ثاء مثلثة مكررة بينهما ألف .

                                                            (الحادية والثلاثون) : قولها فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح : أما عثرت فبفتح الثاء المثلثة والمرط بكسر الميم كساء من صوف وقد يكون من غيره و تعس : بفتح العين وكسرها لغتان مشهورتان اقتصر الجوهري على الفتح والقاضي عياض وغيره [ ص: 57 ] على الكسر ورجح بعضهم الفتح وبعضهم الكسر ومعناه عثر وقيل هلك وقيل لزمه الشر وقيل بعد وقيل سقط لوجهه خاصة دعت عليه بذلك لما قال ؛ وسمته عائشة رضي الله عنها سبا ، وفيه كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا آذى أهل الفضل أو فعل غير ذلك من القبائح كما فعلت أم مسطح في دعائها على ولدها وفيه فضيلة أهل بدر والذب عنهم كما فعلت أم المؤمنين في ذبها عنه . .



                                                            (الثانية والثلاثون) : قولها قالت أي هنتاه : أما أي : بفتح الهمزة وإسكان الياء فحرف نداء للبعيد أو لمنزل منزلته وهي هنا للمنزل منزلته وكأنها عدت أم المؤمنين بعيدة عنها لغفلتها عن هذا الأمر وأما هنتاه : فهو بفتح الهاء وإسكان النون وفتحها ؛ والإسكان أشهر . قال صاحب النهاية : وتضم الهاء الآخرة وتسكن . ويقال في التثنية هنتان وفي الجمع هنات وهنوات وفي المذكر هن وهنان وهنون . ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول : يا هنه ، وأن تشبع حركة النون فتصير ألفا فتقول : يا هناه ، ولك ضم الهاء ، فتقول : يا هناه أقبل . قال الجوهري هذه اللفظة تختص بالنداء ومعناها يا هذه ، وقيل : يا مرأة ، وقيل : يا بلهاء ، كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم ، ومن استعمالها في المذكر حديث الصبي ابن معبد فقلت : يا هناه إني حريص على الجهاد ، وهذه اللفظة في الأصل عبارة عن كل نكرة وحكى الهروي عن بعضهم تشديد نونها وأنكره الأزهري وفيه أنه يستحب أن يستر عن الإنسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة رضي الله عنها هذا الأمر شهرا ولم تسمعه بعد ذلك إلا بعارض عرض وهو قول أم مسطح تعس مسطح .



                                                            (الثالثة والثلاثون) : قولها فازددت مرضا إلى مرضي : أي مع مرضي كقوله تعالى [ ص: 58 ] ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أي معها وقوله تعالى من أنصاري إلى الله أي معه وقولها فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الفاء في قوله فدخل علي زائدة وقولها أتأذن لي أن آتي أبوي : فيه أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها بخلاف ذهابها لحاجة الإنسان فلا تحتاج فيه إلى إذنه كما وقع في هذا الحديث .



                                                            (الرابعة والثلاثون) : قولها فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها : (الوضيئة) : بالضاد المعجمة مهموزة ممدودة هي الجميلة الحسنة والوضاءة الحسن وكانت عائشة رضي الله عنها كذلك ووقع في رواية ابن ماهان في صحيح مسلم حظية من الحظوة وهي الوجاهة وارتفاع المنزلة و " الضرائر " جمع ضرة وزوجات الرجل ضرائر ؛ لأن كل واحدة تضرر بالأخرى بالغيرة والقسم وغيرهما والاسم منه الضر بكسر الضاد وحكي ضمها وقولها إلا كثرن عليها : هو بالثاء المثلثة المشددة أي أكثرن القول في عيبها ونقصها وأرادت أمها بهذا الكلام أن تهون عليها ما سمعت ، فإن الإنسان يتأسى بغيره مع تطييب خاطرها بجمالها وحب النبي صلى الله عليه وسلم لها . .



                                                            (الخامسة والثلاثون) : قولها قلت سبحان الله : فيه جواز التعجب بلفظ التسبيح وقد تكرر هذا في الأحاديث .

                                                            (السادسة والثلاثون) : قولها لا يرقأ لي دمع : هو بالهمز أي لا ينقطع وقولها ولا أكتحل بنوم : أي لا أنام .

                                                            (السابعة والثلاثون) : قولها حين استلبث الوحي : ضبطناه بنصب قوله الوحي على أنه مفعول لقوله استلبث أي استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وكلام النووي يدل على أنه مرفوع ، فإنه فسر قولها استلبث : بقوله أي (أبطأ) : ولبث ولم ينزل وكلام القرطبي يوافق ما ضبطناه ويقتضي أن الرفع تجويز لا رواية ، فإنه قال بعد ذكر النصب ويصح رفعه على أن يكون استلبث بمعنى لبث كما يقال [ ص: 59 ] استجاب بمعنى أجاب وهو كثير .



                                                            (الثامنة والثلاثون) : قولها يستشيرهما في فراق أهله : فيه مشاورة الإنسان بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينويه من الأمور .



                                                            (التاسعة والثلاثون) : قول أسامة هم أهلك : أي العفائف اللائقات بك كما في قوله تعالى والطيبات للطيبين وليس المراد بذلك أنه تبرأ من الإشارة ووكل الأمر في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أعلم بها منه لقول عائشة فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله إلى آخره فدل على أنه أشار وبرأها بكلامه هذا .

                                                            وأما قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير : فقال النووي هذا هو الصواب في حق علي رضي الله عنه ؛ لأنه رآها مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده ولم يكن كذلك في نفس الأمر ؛ لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وقلقه فأراد إراحة خاطره وكان ذلك أهم من غيره واستأنس به البخاري في صحيحه لقول الإنسان في التعديل لا أعلم عليه إلا خيرا . .



                                                            (الفائدة الأربعون) : قول علي وإن تسأل الجارية تصدقك : أي بريرة بدليل قوله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة : وهي بفتح الباء الموحدة وكسر الراء المهملة بعدها ياء مثناة من تحت ثم راء مهملة وقولها والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله معناه أنه ليس فيها شيء مما تسألون عنه أصلا ولا فيها شيء من غيره إلا نومها عن العجين وقولها أغمصه : بفتح الهمزة وإسكان الغين المعجمة وكسر الميم وبالصاد المهملة أي أعيبها به من الغمص وهو العيب و الداجن : بكسر الجيم الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى وأورد البخاري هذا الحديث في الشهادات من صحيحه وبوب عليه باب تعديل النساء بعضهم بعضا قال القاضي عياض .

                                                            [ ص: 60 ] هذا ليس بينا إذ لم تكن شهادة والمسألة التي اختلف فيها العلماء إنما هي في تعديلهن للشهادة فمنع من ذلك مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وأجازه أبو حنيفة في المرأتين والرجل بشهادتهما في المال واحتج الطحاوي لذلك بقول زينب في عائشة وقول عائشة في زينب فعصمها الله بالورع : قال ومن كانت بهذه الصفة جازت شهادتها ، وهذا ركيك جدا ؛ لأنه وإمامه أبا حنيفة لا يجيزان شهادة النساء إلا في مواضع مخصوصة فكيف يطلق جواز تزكيتهن انتهى .



                                                            (الحادية والأربعون) : فيه جواز البحث والسؤال عن أحوال غيره إذا كان له بذلك تعلق كسؤال الإنسان عن زوجته في مثل هذا وعن ولده الذي يريد تربيته وتأديبه وسؤال الحاكم عمن شهد عنده والمحدث عمن يريد الرواية عنه والإنسان عمن يريد مصاهرته أو مخالطته أو مشاركته ونحو ذلك أما غيره فهو منهي عنه وهو تجسس وفضول .



                                                            (الثانية والأربعون) : قولها فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي على المنبر بدليل قوله بعده فقال وهو على المنبر : وفيه خطبة الإمام الناس عند نزول أمر مهم وقولها فاستعذر من عبد الله : معناه أنه قال من يعذرني فيمن آذاني في أهلي كما بينته في هذا الحديث ومعنى من يعذرني : من يقوم بعذري إن كافأته على قبيح فعله ولا يمني وقيل معناه من ينصرني والعذير الناصر وفيه اشتكاء ولي الأمر إلى المسلمين من يعترض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره واعتذاره فيما يريد أن يؤدبه به .



                                                            (الثالثة والأربعون) : فيه فضائل ظاهرة لصفوان بن المعطل رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بما شهد وبفعاله الجميل في إركاب عائشة رضي الله عنها وحسن أدبه في جملة القضية . .



                                                            (الرابعة والأربعون) : قولها فقام سعد بن معاذ فقال أعذرك منه : [ ص: 61 ] كذا وقع في أصلنا وهو خبر مبتدأ أي أنا أعذرك منه كما هو ثابت في الصحيحين قال القاضي عياض هذا مشكل لم يتكلم عليه أحد وكانت هذه القصة في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق سنة ست فيما ذكره ابن إسحاق ومعلوم أن سعد بن معاذ مات في أثر غزاة الخندق من الرمية التي أصابته وذلك سنة أربع بإجماع أهل السير إلا شيئا قاله الواقدي وحده قال القاضي عياض قال بعض شيوخنا ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم والأشبه أنه غيره ولهذا لم يذكره ابن إسحاق في السير وإنما قال إن المتكلم أولا وآخرا أسيد بن حضير قال القاضي وقد ذكر موسى بن عقبة أن غزوة المريسيع كانت سنة أربع وهي سنة الخندق وقد ذكر البخاري اختلاف ابن إسحاق وابن عقبة قال القاضي وقد ذكر الطبري عن الواقدي أن المريسيع كانت سنة خمس قال وكانت الخندق وقريظة بعدها وذكر إسماعيل الخلاف في ذلك وقال الأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق وقال القاضي ، وهذا لذكر سعد في قصة الإفك وكانت في المريسيع فعلى هذا يستقيم فيه ذكر سعد بن معاذ وهو الذي في الصحيحين وقول غير ابن إسحاق في وقت المريسيع أصح ، هذا كلام القاضي حكاه عنه النووي قال وهو صحيح

                                                            (قلت) : وقد سبق القاضي إلى ذكر هذا الإشكال أبو عمر بن عبد البر والله أعلم .



                                                            (الخامسة والأربعون) : قولها فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية : كذا في روايتنا اجتهلته بالجيم والهاء وكذا هو عند معظم رواة صحيح مسلم ومعناه استخفته وأغضبته وحملته على الجهل وفي رواية ابن ماهان في صحيح مسلم احتملته : بالحاء والميم وكذا رواه مسلم بعد هذا من رواية [ ص: 62 ] يونس وصالح وكذا رواه البخاري ومعناه أغضبته فالروايتان صحيحتان .

                                                            (السادسة والأربعون) : فيه فضيلة ظاهرة لسعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما قال أبو العباس القرطبي وبين السعدين ما بين الكلمتين والله يؤتي فضله من يشاء وقال القاضي عياض فيه أن التعصب في الباطل يخرج عن اسم الصلاح لقول عائشة فاحتملته الحمية وكان قبل ذلك رجلا صالحا : الصلاح القيام بحقوق الله وما يلزم من حقوق عباده قال وفيه جواز سب المتعصب في الباطل والمتكلم بنكر القول والإغلاظ في سبه بما يشبه صفته ، وإن لم يكن فيه حقيقة لقول أسيد كذبت إنك منافق تجادل عن المنافقين : .

                                                            وحاشا سعدا من النفاق ولكن لما كان منه من ظاهر التعصب لابن أبي المنافق عرض له بمثل هذا القول الغليظ . وقال الداودي إنما أنكر سعد بن عبادة من قول سعد بن معاذ تحكمه في قومه بحكم أنفة العرب وما كان قديما بين الحيين لا أنه رضي فعل ابن أبي وقوله كذبت لعمر الله لا تقتله : أي لا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمه إليك (قلت) : الأظهر عندي أن ابن معاذ لم يقل هذا الكلام أنفة لما بين الحيين من الدخول في الجاهلية وإنما قاله بإخلاص نصرا لله ورسوله وانظر إنصافه في تقديمه ذكر قومه الأوس وجزمه بضرب عنقه إن كان منهم وقوله في الخزرج الذين ليسوا قومه أمرتنا ففعلنا أمرك : .

                                                            وهذا غاية في الإنصاف ولا يتوقف أحد في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه حتم لازم وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا وأما قول ابن عبادة لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله : فلم يقل ذلك حمية ولا انتصارا لابن أبي كيف وابن أبي من الخزرج وابن معاذ لم [ ص: 63 ] يقل لا تقتله ولا تقدر على قتله وإنما هو فيما إذا كان من الأوس ، فإنه إنما وعد بقتل الأوسي ، وهذا يحقق أن ابن عبادة لم يقل ذلك حمية ولو كانت هناك حمية لما وجبها لرهط ابن معاذ وإنما قال ذلك لعلمه أن القائل لذلك ممن يظهر الإسلام وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقتل من يظهر الإسلام وأنه أراد أن ينبه قومه يمنعونه منه ، حيث لم يصدر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له لا تقل ما لا تفعله ولا تقدر على فعله لعدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأنت لا يمكنك إلا الوقوف عنده ولو لم تقف لمنعك أصحابك وأما ما قاله ابن معاذ في الخزرج فأمر لا يقبل النزاع .

                                                            وهذا مخلص حسن هدانا الله له وهو يهدي من يشاء وفي آخر كلام الداودي إشارة إلى بعضه حيث قال أي لا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمه إليك لكن في أول كلامه ما لا يرضي (فإن قلت) : هذا يخالف ما فهمته عائشة رضي الله عنها ولهذا قالت ولكن اجتهلته الحمية (قلت) : كانت عائشة رضي الله عنها وراء حجاب ومنزعجة الخاطر لما دهمها من الخطب العظيم والاختلاق الجسيم عليها فقد يقع في فهمها لبعض ما وقع ما يكون غيره أرجح منه .

                                                            (فإن قلت) : نزهت سعد بن عبادة بالتعرض لعائشة (قلت) : حاش لله ما ذكرته في عائشة لا يقدح في شيء من جلالتها ، والخطأ جائز على البشر لا سيما في الكلام الذي ليس فيه تصريح بالمقصود فقد يقع الخلل في فهمه وقد قالت هي في حق ابن عمر ما كذب أبو عبد الرحمن ولكنه وهم ولا سيما وليس هذا خطأ في فهم كلام النبوة ولا في حكم شرعي وإنما هو في كلام الآحاد الذي لا يترتب عليه حكم شرعي .

                                                            وأما حمل كلام سعد بن عبادة على ما حملوه عليه فهو شديد يترتب عليه ما لا أتفوه به .

                                                            (فإن قلت) : وهذا يخالف فهم أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو حاضر مع القوم من غير حجاب ولا انزعاج [ ص: 64 ] قلت إنما انتصر أسيد بن حضير رضي الله عنه لكلام ابن معاذ وساعده على قتل القائل لهذا الكلام إن كان من الأوس وقال : إنهما قادران على قتله وحمله على ذلك شدة نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة العظيمة التي طلب فيها من يعذره من ذلك القائل وأنكر على ابن عبادة ظاهر لفظه وإن كان لباطنه مخلص حسن فيحتمل أنه غاب عن أسيد ذلك المخلص ويحتمل أنه علمه وأنكر على ابن عبادة ظاهر اللفظ وكم من لفظ ينكر إطلاقه على قائله ، وإن كان في الباطن له مخلص فهذا ما سمح به الخاطر في تنزيه الصحابة رضي الله تعالى عنهم والعلم عند الله تعالى وقال المازري : قول أسيد لسعد يا منافق .

                                                            قد تقدم الكلام على أمثاله إذا وقع بين الصحابة وأنه يجب تأويله على ما يليق بهم والأشبه أن أسيدا إنما وقع ذلك منه على جهة الغيظ والحنق وبالغ في زجر سعد ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر ولعله أراد أن سعدا كان يظهر له وللأوس من المودة ما يقتضي عنده أن لا يقول فيهم ما قال فلاح له أن باطنه فيهم خلاف ما ظهر والنفاق في اللغة ينطلق على إظهار ما يبطن خلافه دينا كان أو غيره ولعله صلى الله عليه وسلم لأجل هذا لم ينكر عليه إن كان سمع قوله هذا انتهى .

                                                            وهو يوافق ما ذكرته من أن إنكار سعد بن عبادة على سعد بن معاذ لم يكن بالنسبة إلى الخزرج وإنما هو بالنسبة إلى الأوس وجزمه بقتل القائل إن كان منهم والله أعلم .

                                                            وقال النووي : أراد أنك تفعل فعل المنافقين ولم يرد النفاق الحقيقي .



                                                            (السابعة والأربعون) : قولها فثار الحيان : هو بالثاء المثلثة أي تناهضوا للنزاع والعصبية كما قالت حتى هموا أن يقتتلوا وقولها فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت : فيه المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب . .



                                                            (الثامنة [ ص: 65 ] والأربعون) : قولها فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس : فيه ابتداء الخطب والكلام المهم بعد حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله بالشهادتين (التاسعة والأربعون) : قولها : ثم قال أما بعد : يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا : فيه أن الخطيب والمتكلم بالمهم يأتي بعد الحمد والشهادتين بهذه اللفظة وهي أما بعد وهو مبني على الضم وأصله بعد ما تقدم من الحمد والشهادتين ، فإنه إلى آخر الكلام وقد كثر استعمال هذه اللفظة في الأحاديث الصحيحة وجمع والدي رحمه الله في ذلك أوراقا وقوله كذا وكذا : هو كناية عما رميت به من الإفك ، وهذا يدل على أن كذا وكذا يكنى به عن الأحوال كما يكنى به عن الأعداد .



                                                            (الخمسون) : قوله عليه الصلاة والسلام وإن كنت ألممت بذنب : معناه فعلت ذنبا وليس ذلك لك بعادة ، وهذا أصل اللمم وهو من الإلمام وهو النزول النادر غير المتكرر ومنه [ ص: 66 ] قوله :

                                                            متــى تأتنــا تلمــم بنــا فــي ديارنـا

                                                            أي متى يقع منك هذا النادر وقوله فاستغفري : الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه : فيه قبول التوبة والحث عليها ، وفيه أن مجرد الاعتراف لا يغني عن التوبة بل إذا اعترف به متفصلا نادما وليس المراد الاعتراف بذلك للناس بل الاعتراف لله تعالى ، فإن الإنسان مأمور بالستر وأما قول الداودي إن فيه دليلا على الفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن وأنه يجب عليهن الاعتراف بما يكون منهن إذ لا يحل للنبي إمساكهن وهن بهذه الصفة فهو مردود وقد رده القاضي عياض وأمهات المؤمنين منزهات عن صدور الفاحشة منهن والله أعلم .



                                                            (الحادية والخمسون) : قولها فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي : هو بفتح القاف واللام أي ارتفع وقد أوضحت ذلك بقولها حتى ما أحس منه قطرة : وذلك لاستعظام [ ص: 67 ] ما بغتها من الكلام ، فإن الحزن قد انتهى نهايته وبلغ غايته ولما انتهى الأمر إلى ذلك جف الدمع وأنشدوا على ذلك

                                                            عينــــــي شـــــحا أو لا تشـــــحا جـــــل مصــــابي عــــن الــــدواء أن الأســــــى والبكـــــا جميعـــــا
                                                            ضـــــــدان كــــــالداء والــــــدواء



                                                            (الثانية والخمسون) : قولها لأبويها أجيبا عني : فيه تفويض الكلام إلى الكبار ؛ لأنهم أعرف بمقاصده واللائق بالمواطن منه وأبواها يعرفان حالها وأما قول أبويها لا ندري ما نقول فمعناه أن الأمر الذي سألتهما عنه لا يقفان منه على زائد على ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي من حسن الظن بها والسرائر إلى الله تعالى وروينا من طريق عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه قال يا بنية وكيف أعذرك بما لا أعلم وأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت ما لا أعلم ، .

                                                            وروى أبو بكر البزار في مسنده بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها لما أنزل عذرها قبل أبو بكر رأسها فقالت ألا عذرتني فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني [ ص: 68 ] إن قلت ما لا أعلم . .



                                                            (الثالثة والخمسون) : فيه جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز لقولها ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف جميل والله المستعان على ما تصفون ولا خلاف في جوازه وكذا في روايتنا صبر جميل بدون فاء مع أن لفظ القرآن بالفاء وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : الآية الفاذة الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره قالوا ولا امتناع في ذلك ؛ لأن حرف العطف في حكم الانفصال ، فإنه كلمة مفردة وقوله فصبر جميل خبر مبتدأ مخذوف تقديره أمري أو صبري أو نحو ذلك .



                                                            (الرابعة والخمسون) : قولها ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى قال أبو العباس القرطبي فيه دليل على أن الذي يتعين على أهل الفضل والعلم والعبادة والمنزلة احتقار أنفسهم وترك الالتفات إلى أعمالهم وأحوالهم وتحوير النظر إلى لطف الله وعفوه ورحمته وكرمه وقد اغتر كثير من الجهال بالأعمال فلاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات وإجابة الدعوات وزعموا أنهم ممن يتبرك [ ص: 69 ] بلقائهم ويغتنم صالح دعائهم وأنه يجب احترامهم وتعظيمهم ويرون أن لهم من المكانة عند الله بحيث ينتقم لهم ممن ينتقصهم في الحال ، وأن يأخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال ، وهذه كلها نتائج الجهل .

                                                            (الخامسة والخمسون) : قولها ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه : أي ما فارقه يقال رامه يريمه ريما أي برحه ولازمه وأما رام بمعنى طلب فيقال منه رام يروم روما .

                                                            (السادسة والخمسون) : قولها فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء : هي بضم الباء الموحدة وفتح الراء وبالحاء المهملة والمد وهي الشدة ويقال لها أيضا برح بإسكان الراء وقولها حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق : معنى ليتحدر : ليتصبب وهو بالتاء وفتح الدال وتشديدها وهو أبلغ مما لو قيل لينحدر بالنون وكسر الدال وتخفيفها و الجمان : بضم الجيم وتخفيف الميم وآخره نون هو الدر شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن وقولها فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : بضم السين وتشديد الراء المهملتين أي كشف وأزيل . .



                                                            (السابعة والخمسون) : قوله صلى الله عليه وسلم أبشري يا عائشة : فيه استحباب المبادرة لتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه بلية ظاهرة . .



                                                            (الثامنة والخمسون) : قوله أما الله عز وجل فقد برأك : أي بما أنزله في كتابه العزيز فصارت براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك براءة قطعية بنص القرآن فلو شك فيها إنسان والعياذ بالله تعالى صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين وأما غيرها من أمهات المؤمنين فهل يكون قذفها كفرا فيه قولان فمن قال بالتكفير نظر إلى ما فيه من أذى النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يقل به لم ير فيه مخالفة قاطع ، وقال ابن عباس وغيره لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قط ، وهذا [ ص: 70 ] إكرام الله تعالى لهم .

                                                            (التاسعة والخمسون) : قولها فقالت لي أمي قومي إليه ، فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي : معناه قالت لها أمها قومي فاحمديه وقبلي رأسه واشكريه لنعمة الله التي بشرك بها فقالت عائشة : ما قالت إدلالا عليهم وعتبا لكونهم شكوا في حالها مع علمهم بحسن طرائقها وجميل أحوالها وارتفاعها عن هذا الباطل الذي افتراه قوم ظالمون لا حجة لهم ولا شبهة فيه قالت : وإنما أحمد ربي سبحانه وتعالى الذي أنزل براءتي وأنعم علي بما لم أكن أتوقعه كما قالت ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى : . .



                                                            (الستون) : قوله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أي لا يحلف الأولية الحلف يقال آلى يولي وائتلى يأتلي بمعنى واحد قال أبو العباس القرطبي والفضل هنا المال والسعة في العيش والرزق (قلت) : الظاهر أن المراد بالفضل الإفضال والإعطاء والتصديق ، والتفسير الذي ذكره إنما يليق بالسعة ويوافق ما ذكرته ، قول النووي فيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه في قوله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة الآية انتهى .

                                                            ولو أريد بالفضل المال لم يكن في ذلك فضيلة له . .



                                                            (الحادية والستون) : فيه استحباب صلة الأرحام ، وإن كانوا مسيئين والعفو والصفح عن المسيء والصدقة والإنفاق في سبيل الخيرات وأنه يستحب لمن حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه كما نطق به الحديث الصحيح .



                                                            (الثانية والستون) : قول زينب رضي الله عنها أحمي سمعي وبصري : أي أصون سمعي من أن أقول سمعت ولم أسمع وبصري من أن أقول أبصرت ولم أبصر وقد يكون المراد أنها تحميهما من عقوبة الله بذلك (الثالثة والستون) : قولها وهي [ ص: 71 ] التي كانت تساميني : بالسين المهملة أي تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مفاعلة من السمو وهو الارتفاع وفيه فضيلة ظاهرة لزينب أم المؤمنين .

                                                            (الرابعة والستون) : قولها وطفقت أختها حمنة هي بفتح الحاء المهملة وإسكان الميم وفتح النون و (طفق) : من أفعال الشروع والمشهور كسر فائه وحكي فتحها وقولها تحارب لها : أي تتعصب لها فتحكي ما يقوله أهل الإفك نصرة لأختها لتعلو منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وقولها فهلكت فيمن هلك : قال أبو العباس القرطبي أي حدت حد القذف فيمن حد انتهى . ويحتمل أن يكون المراد بالهلاك ما حصل لها من الإثم والله أعلم .

                                                            (الخامسة والستون) : هذه الرواية التي ذكر الشيخ رحمه الله في النسخة الكبرى من الأحكام أنه علقها البخاري ووصلها مسلم هي عندهما من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فقولها وكان الذين تكلموا فيه مسطح وحمنة وحسان : يجوز رفع مسطح وما بعده على اسمية كان ونصبها على الخبر والمعنى مستقيم عليهما معا وقد ضبطه القرطبي بالوجه الثاني وقولها وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو الذي كان يستوشيه : هو بفتح الياء المثناة من تحت وإسكان السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق وكسر الشين المعجمة أي يستخرجه بالبحث والسؤال ثم يفشيه ويشيعه ويحركه ولا يدعه يخمد يقال فلان يستوشي فرسه أي يطلب ما عنده من الجري ويستخرجه . .



                                                            (السادسة والستون) : والرواية التي فيها فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم عزاها الشيخ رحمه الله لأصحاب السنن الأربعة وهي عندهم من طريق محمد بن إسحاق [ ص: 72 ] عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق وبين الشيخ رحمه الله أن في رواية البيهقي تصريح ابن إسحاق بالتحديث فزال بذلك ما يخشى من تدليسه ؛ لأن المشهور قبول حديث ابن إسحاق إلا أنه مدلس ، فإذا صرح بالتحديث كان حديثه مقبولا ورواه أبو داود أيضا من هذا الوجه من حديث عمرة مرسلا من غير ذكر عائشة بلفظ فأمر برجلين وامرأة ممن تكلم بالفاحشة حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة قال النفيلي ويقولون : المرأة حمنة بنت جحش وفي كتاب الطحاوي ثمانين ثمانين : (السابعة والستون) : قال القاضي عياض وفيه إقامة الحدود على العارفين قيل وفيه ترك ذلك من جهة من له منعة ويخشى عليه من إقامته تفريق كلمة وظهور فتنة كما لم يحد عبد الله بن أبي وكان رأس أصحاب الإفك ومتولي كبره وعندي أنه إنما لم يحد ؛ لأنه لم يقذف وإنما كان يستوشيه ويتحدث به عنده كما في رواية البخاري أنه كان يشاع عنده فيقره ويسمعه ويتحدث به عنده ويستوشيه ومثل هذا لا يلزمه حد عند الجميع حتى يقذف بنفسه ، وقال أبو العباس القرطبي الظاهر من الأخبار أن ابن أبي لم يحد وإنما لم يحد عدو الله ؛ لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما فلو حد في الدنيا لكان نقصا من عذابه الأخروي وتخفيفا عنه وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة وبكذب كل من رماها فقد حصلت فائدة الحد أو مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف كما [ ص: 73 ] قال تعالى فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحدود إنها كفارة لمن أقيمت عليه ويحتمل أنه إنما ترك حده استئلافا لقومه واحتراما لابنه وإطفاء لثائرة الفتنة المندفعة من ذلك انتهى .

                                                            (قلت) : لما توقف حد القذف على طلب المقذوف سهل الخطب في ذلك ، فإنه ليس من الحدود التي هي محض حق الله تعالى تقام ولا بد فبتقدير أن يثبت تصريح ابن أبي بالقذف لم تطالب عائشة رضي الله عنها بالحد إما لتسكين الفتنة وإما لطلب تغليظ العذاب في الآخرة وإما لغير ذلك ولا بد من تقرير طلب عائشة حد المحدودين لما بيناه من أنه حق آدمي لا يقام إلا بطلب مستحقه والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية