الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النوع الثاني عشر:

معرفة التدليس وحكم المدلس

التدليس قسمان:

[ ص: 446 ]

التالي السابق


[ ص: 446 ] النوع الثاني عشر:

معرفة التدليس.

59 - قوله: (التدليس قسمان) إلى آخر كلامه.

ترك المصنف رحمه الله قسما ثالثا من أنواع التدليس وهو شر الأقسام، وهو الذي يسمونه تدليس التسوية، وقد سماه بذلك أبو الحسن بن القطان وغيره من أهل هذا الشأن.

وصورة هذا القسم من التدليس: أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمل المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه؛ لأنه قد سمعه منه فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قوله إلا لأهل [ ص: 447 ] النقد والمعرفة بالعلل.

ومثال ذلك ما ذكره أبو محمد بن أبي حاتم في كتاب العلل قال: سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه عن بقية قال: حدثني أبو وهب الأسدي، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا: "لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه" فقال أبي: إن هذا الحديث له أمر قل من يفهمه، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي، فكناه بقية، نسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن له حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى له، قال: وكان بقية من أفعل الناس لهذا" انتهى.

وممن كان يصنع هذا النوع من التدليس الوليد بن مسلم. [ ص: 448 ] وحكي أيضا عن الأعمش وسفيان الثوري.

فأما الوليد بن مسلم فحكى الدارقطني عنه أنه كان يفعله، وروينا عن أبي مسهر قال: "كان الوليد بن مسلم يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين، ثم يدلسها عنهم" وروينا عن صالح جزرة قال: "سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدت حديث الأوزاعي، قال: كيف؟ قلت: تروي عن الأوزاعي، عن نافع. وعن الأوزاعي، عن الزهري. وعن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد. وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة. قال: أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء. قلت: فإذا روى عن هؤلاء وهم ضعفاء أحاديث مناكير فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي. فلم يلتفت إلى قولي".

[ ص: 449 ] وأما الأعمش والثوري فقال الخطيب في الكفاية: كان الأعمش والثوري وبقية يفعلون مثل هذا. فالله أعلم.

قال شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب (جامع التحصيل): "وبالجملة فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقا وشرها" انتهى.

قلت: ومما يلزم منه من الغرور الشديد أن الثقة الأول قد لا يكون معروفا بالتدليس، ويكون المدلس قد صرح بسماعه من هذا الشيخ الثقة، وهو كذلك، فتزول تهمة تدليسه، فيقف الواقف على هذا السند فلا يرى فيه موضع علة؛ لأن المدلس صرح باتصاله، والثقة الأول ليس مدلسا، وقد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة، وفيه ما فيه من الآفة التي ذكرناها، وهذا قادح فيمن تعمد فعله. والله أعلم.




الخدمات العلمية