الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3124 [ 1756 ] وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال سليمان بن داود نبي الله: لأطيفن الليلة على سبعين امرأة، كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه أو الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل ونسي، فلم تأت واحدة من نسائه إلا واحدة جاءت بشق غلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركا لحاجته".

                                                                                              وفي رواية: على تسعين امرأة كلها تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله، وفيها: "فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، فجاءت بشق رجل، وايم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون".


                                                                                              رواه البخاري (3424)، ومسلم (1654) (23 و 25)، والنسائي ( 7 \ 25 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول سليمان : لأطيفن الليلة على سبعين امرأة ) هذا الكلام قسم، وإن لم يذكر فيه مقسم به؛ لأن لام (لأطيفن) هي التي تدخل على جواب القسم. فكثيرا ما تحذف معها العرب المقسم به اكتفاء بدلالتها على المقسم به، لكنها لا تدل على مقسم به معين. وعلى هذا: ففيه من الفقه ما يدل على أن من قال: أحلف، أو أشهد، أو ما أشبه ذلك مما يفيد القسم، ونوى بذلك الحلف بالله تعالى؛ كانت يمينا جائزة، منعقدة. وهو مذهب مالك . وقد قال الشافعي : لا تكون يمينا بالله تعالى حتى يتلفظ بالمقسم به. وقال أبو حنيفة : هي يمين أراد بها اليمين بالله تعالى أم لا. وكأن الأولى ما صار إليه مالك ؛ لأن ذلك اللفظ صالح وضعا للقسم بالله تعالى، فإذا أراده الحالف؛ لزمه كسائر الألفاظ المقيدة بالمقاصد من العمومات، والمطلقات، وغير ذلك. وأما إذا لم يرد باللفظ القسم أو القسم بغير الله تعالى؛ فلا يلزمه به شيء؛ لأن الأول لا يكون يمينا، والثاني غير جائز، ولا منعقد، فلا يلزم به حكم على ما تقدم.

                                                                                              و (قوله: كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله ) وفي اللفظ الآخر: ( بفارس ). قد تقدم القول في الغلام، وأنه الصغير. وأراد به ها هنا: الشاب المطيق للقتال. وهذا الكلام من سليمان صلى الله عليه وسلم ظاهره الجزم على أن الله يفعل ذلك [ ص: 636 ] الذي أراد، لكن الذي حمله على ذلك صدق نيته في حصول الخير، وظهور الدين، وفعل الجهاد، وغلبة رجاء فضل الله تعالى في إسعافه بذلك. ولا يظن به: أنه قطع بذلك على الله تعالى إلا من جهل حالة الأنبياء في معرفتهم بالله تعالى وبحدوده، وتأدبهم معه.

                                                                                              ورواية العذري : ( لأطوفن ). ورواية الجماعة كما تقدم. وكلاهما صحيح في اللغة. يقال: أطفت بالشيء، أطيف به، وأنا مطيف. وطفت على الشيء، وبه، أطوف، وأنا طائف، كما قال تعالى: فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون [القلم: 19] وأصله: الدوران حول الشيء. ومنه: الطواف بالبيت. وهو في هذا الحديث كناية عن الجماع، كما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أنه كان يطوف على نسائه، وهن تسع، في ساعة واحدة من ليل أو نهار. وهذا يدل على ما كان الله تعالى خص به الأنبياء من صحة البنية، وقوة الفحولية، وكمال الرجولية، مع ما كانوا فيه من الجهد، والمجاهدات، والمكابدات على ما هو المعلوم من حال نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه توفي ولم يشبع من خبز البر ثلاث ليال تباعا. وقد روي عن سليمان صلى الله عليه وسلم: أنه كان يفترش الرماد، ويأكل خبز الرماد. وهذا هو المعلوم من حال الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، ومن كان هذه حاله فالعادة جارية بأن يضعف عن الجماع، لكن خرق الله لهم العادة في أبدانهم، كما خرقها لهم في معجزاتهم، وأكثر أحوالهم.

                                                                                              [ ص: 637 ] وقد اختلفت الروايات في عدد النساء اللواتي طاف عليهن سليمان . ففي الأصل: ستون، وسبعون، وتسعون. وفي غير كتاب مسلم : مائة. والله تعالى أعلم أي ذلك كان.

                                                                                              و (قوله: قال له صاحبه أو الملك ) هذا شك من أحد الرواة في الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم منهما. فإن كان صاحبه، فيعني به: وزيره من الإنس، أو الجن. وإن كان الملك؛ فهو الذي كان يأتيه بالوحي. وقد أبعد من قال: هو خاطره.

                                                                                              و (قوله: قل: إن شاء الله ) هذا تذكير له بأن يقول بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه؛ فإن ذلك بعيد على الأنبياء، وغير لائق بمناصبهم الرفيعة، ومعارفهم المتوالية. وإنما هذا كما قد اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الروح، والخضر ، وذي القرنين ؛ فوعدهم بأن يأتي بالجواب غدا، جازما بما عنده من معرفته بالله تعالى، وصدق وعده في تصديقه، وإظهار كلمته، لكنه ذهل عن النطق بكلمة: (إن شاء الله) لا عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه، فأدب بأن تأخر الوحي عنه؛ حتى رموه بالتكذيب لأجلها. ثم إن الله تعالى علمه وأدبه بقوله: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [الكهف: 23 - 24] فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب. وهذا لعلو مناصب الأنبياء، وكمال معرفتهم بالله تعالى، يناقشون، ويعاتبون على ما لا يعاتب عليه غيرهم، كما قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق لوط : (ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد) فعتب عليه نطقه بكلمة يسوغ لغيره أن ينطق بها، وقد استوفينا هذا المعنى فيما تقدم.

                                                                                              [ ص: 638 ] و (قوله: فلم يقل، ونسي ) أي: لم ينطق بتلك الكلمة ذهولا ونسيانا، أنساه الله تعالى إياها لينفذ قدر الله تعالى الذي سبق به علمه، من جعل ذلك النسيان سببا لعدم وقوع ما تمناه وقصده سليمان عليه السلام.

                                                                                              و (قوله: فلو قال: إن شاء الله لم يحنث ) دليل على جواز قول: (لو) و (لولا) بعد وقوع المقدور. وقد وقع من ذلك مواضع كثيرة في الكتاب، والسنة، وكلام السلف، كقوله تعالى: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [هود: 80] وكقوله: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات [الفتح: 25] وكقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر، ولولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم).

                                                                                              فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في "الصحيح": (لا يقولن أحدكم: لو؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) فمحمول على من يقول ذلك معتمدا على الأسباب، معرضا عن المقدور، أو متضجرا منه، كما حكاه الله تعالى من قول المنافقين حيث قالوا: لو أطاعونا ما قتلوا [آل عمران: 168] ثم رد الله قولهم، وبين لهم عجزهم، فقال: قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين [آل عمران: 168] ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو كان كذا لكان كذا؟ فإن لو تفتح عمل الشيطان. قل: ما شاء الله كان، وما شاء فعل)، فالواجب عند وقوع المقدور التسليم لأمر الله، وترك الاعتراض على [ ص: 639 ] الله، والإعراض عن الالتفات إلى ما فات. فيجوز النطق ب (لو) عند السلامة من تلك الآفات. والله تعالى أعلم.

                                                                                              وفيه دليل على أن اليمين بالله تعالى إذا قرن بها (إن شاء الله) لفظا منويا؛ لم يلزم الوفاء بها، ولا يقع الحنث فيها. ولا خلاف في ذلك. واختلفوا فيما إذا وقع الاستثناء منفصلا عن اليمين. فالجمهور: على أنه لا ينفع الاستثناء حتى يكون متصلا به، منويا معه، أو مع آخر حرف من حروفه. وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، والجمهور. وقد اتفق مالك والشافعي : على أن السعال، والعطاس، وما أشبه ذلك لا يكون قاطعا إذا كان ناويا له. وقال بعض أصحابنا: لا ينفع الاستثناء إلا أن ينويه قبل نطقه بجميع حروف اليمين. وعند هؤلاء: أن السكوت المختار الذي يقطع به كلامه، أو يأخذ في غيره لا ينفع معه الاستثناء. وكان الحسن ، وطاوس ، وجماعة من التابعين يرون للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة : ما لم يقم أو يتكلم. وعن عطاء : قدر حلبة ناقة. وعن سعيد بن جبير : بعد أربعة أشهر. وروي عن ابن عباس : بعد سنة. وقد أنكرت هذه الرواية عنه، وضعفت، وتأولها بعضهم: بأن له أن يستثني امتثالا لأمر الله: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [الكهف: 23 - 24] لا لحل اليمين. والصحيح الأول إن شاء الله؛ لأنه لو لم يشترط الاتصال لما انعقدت يمين، ولا تصور عليها ندم، ولا حنث، ولا احتيج للكفارة فيها. وكل ذلك حاصل بالاتفاق. فاشتراط الاتصال صحيح. ولتفصيل هذه الجملة علم الخلاف.

                                                                                              وقد احتج من قال بفصل الاستثناء بما قال في هذا الحديث: إن سليمان عليه السلام لما حلف قال له صاحبه - أو الملك -: قل: إن شاء الله. ووجهه: [ ص: 640 ] أنه إنما عرض عليه الاستثناء بعد فراغه من اليمين. فلو قالها بعد فراغ قول الصاحب لكان قولها غير متصل باليمين، ومع ذلك، فلو قالها لكانت تنفع، ولم يحنث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لم يحنث ).

                                                                                              والجواب: منع أنه قاله بعد فراغه من اليمين. بل لعله قال ذلك في أضعاف يمينه؛ لأن يمينه تلك كثرت كلماتها فطالت. وليس ذلك الاحتمال بأولى من هذا، فلا حجة فيه، لا له، ولا عليه. وقد احتج المخالف أيضا بما رواه أبو داود عن عكرمة - مولى ابن عباس -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والله لأغزون قريشا ! والله لأغزون قريشا ! والله لأغزون قريشا !) ثم قال: (إن شاء الله)، وفي رواية: ثم سكت، ثم قال: (إن شاء الله) . وهذا مرسل. وقد أسند من حديث عبد الواحد بن صفوان . وليس حديثه بشيء على ما قاله أهل الحديث. والمرسل هو الصحيح.

                                                                                              قلت: وهذا الحديث حجة ظاهرة على جواز الفصل بالسكوت اليسير، وأن ذلك القدر ليس بقاطع؛ لأن الحال شاهدة على الاتصال، لكن عند من يقبل المرسل. ويحتمل أن يكون ذلك السكوت عن غلبة نفس خارج أو أمر طارئ. وفيه بعد.

                                                                                              ثم اختلف العلماء في الاستثناء بمشيئة الله تعالى؛ هل يرفع حكم الطلاق، والعتاق، والمشي لمكة ، وغيرها من الأيمان بغير الله تعالى، أم لا؟ فذهب مالك والأوزاعي : إلى أن ذلك لا يرفع شيئا من ذلك. وذهب الكوفيون، والشافعي ، وأبو ثور ، وبعض السلف: إلى أنه يرفع ذلك كله. وقصر الحسن الرفع على العتق، والطلاق خاصة.

                                                                                              [ ص: 641 ] قلت: وسبب الخلاف اختلافهم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي من حديث ابن عمر من طرق متعددة، وهو صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من حلف على يمين؛ فقال: إن شاء الله؛ فهو بالخيار، إن شاء مضى، وإن شاء ترك )، وفي رواية: (إن شاء ترك غير حنث). فحمل مالك ومن قال بقوله هذا الحديث على اليمين الجائزة، وهي اليمين بأسماء الله وصفاته بناء على أنه هو المقصود الأصلي، واليمين العرفي. وحمله المخالف على العموم في كل ما يمكن أن يقال عليه يمين.

                                                                                              قلت: والصحيح الأول؛ لما قدمناه: من أن هذا النوع الذي قد أطلق عليه الفقهاء يمينا لا يسمى يمينا لا لغة، ولا شرعا؛ إذ ليس من ألفاظها اللغوية، ولا من معانيها الشرعية، كما بيناه.

                                                                                              و (قوله: قل: إن شاء الله ) دليل على صحة قول من يقول: إن الاستثناء لا يصح إلا بالقول، ولا يصح بالنية المجردة. وهو قول كافة العلماء، وأئمة أهل الفتيا. وقال بعض متأخري شيوخنا: إنه يصح بالنية كالمحاشاة؛ فإنهم اتفقوا على أنها تصح بالنية. وفرق المتقدمون بين الاستثناء وبين والمحاشاة؛ بأن الاستثناء رفع لأصل اليمين. والمحاشاة رفع لبعض ما تناولته اليمين، فافترقا.

                                                                                              و (قوله: وايم الذي نفس محمد بيده !) قد قدمنا ذكر خلاف النحويين في: [ ص: 642 ] (ايم الله) واللغات المذكورات فيه فيما تقدم. والكلام هنا في بيان حكمها. فحكى ابن خواز منداذ ، والطحاوي عن مالك : أنها يمين. وبه قال الشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة ، وابن حبيب من أصحابنا. وفي كتاب محمد عن مالك : أخشى أن تكون يمينا.

                                                                                              قلت: وعلى كونها يمينا جائزة يدل قسم النبي صلى الله عليه وسلم بها، ويتمشى ذلك على قول الفراء: إنها جمع يمين. وهو الذي اختاره أبو عبيد . واستدل عليه بقول زهير:


                                                                                              فتجمع أيمن منا ومنكم



                                                                                              قال: وكثر استعمالهم فيه، فحذفوا النون، كما حذفوا نون (لم يك).

                                                                                              قلت: ويلزم على هذا: أن الحالف به يلزمه ثلاثة أيمان؛ لأن الثلاثة أقل مراتب الجمع. وأما على ما فسره سيبويه : من أنه مأخوذ من اليمن والبركة فلا يلزم بها كفارة؛ لأن الحالف بها كأنه قال: وبركة الله، ويمن الله. وذلك راجع إلى الحلف بفعل من أفعال الله تعالى؛ كما لو قال: ورزق الله، وفضل الله. وحينئذ تكون يمينا غير جائزة، ولو كان ذلك لما حلف بها النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قول الفراء أولى، إن شاء الله تعالى.




                                                                                              الخدمات العلمية