الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2487 [ 1448 ] وعن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله، وأثنى عليه فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.

                                                                                              رواه أحمد ( 3 \ 241 )، والبخاري (5063)، ومسلم (1401)، والنسائي ( 6 \ 60 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: أن نفرا ) النفر: الجماعة من الناس، وأقلهم ثلاثة وهم كذلك [ ص: 86 ] هنا. وقد ذكر البخاري حديث أنس هذا على سياق أحسن من هذا وأتم، فقال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم القائلون كذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

                                                                                              قلت: فهؤلاء القوم حصل عندهم أن الانقطاع عن ملاذ الدنيا من النساء والطيب من الطعام والنوم، والتفرغ لاستغراق الأزمان بالعبادات أولى، فلما سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبادته، لم يدركوا من عبادته ما وقع لهم أبدوا فارقا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم: بأنه مغفور له. ثم أخبر كل واحد منهم بما عزم على فعله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم بأن ألغى الفارق بقوله: (إني أخشاكم لله) وتقرير ذلك: إني وإن كنت مغفورا لي فخشية الله وخوفه يحملني على الاجتهاد وملازمة العبادة، لكن طريق العبادة ما أنا عليه، فمن رغب عنه وتركه؛ فليس على طريقي في العبادة.

                                                                                              قلت: ويوضح هذا المعنى ويبينه: أن عبادة الله إنما هي امتثال أوامره الواجبة والمندوبة، واجتناب نواهيه المحظورة والمكروهة، وما من زمان من الأزمان إلا وتتوجه على المكلف فيه أوامر أو نواه، فمن قام بوظيفة كل وقت فقد أدى العبادة، وقام بها. فإذا قام بالليل مصليا: فقد قام بوظيفة ذلك الوقت. فإذا احتاج إلى النوم لدفع ألم السهر، ولتقوية النفس على العبادة، ولإزالة تشويش [ ص: 87 ] مدافعة النوم المشوشة للقراءة، أو لإعطاء الزوجة حقها من المضاجعة: كان نومه ذلك عبادة كصلاته، وقد بين هذا المعنى سلمان الفارسي لأبي الدرداء بقوله: لكني أقوم وأنام، وأحتسب في نومتي ما أحتسبه في قومتي. وكذلك القول في الصيام. وأما التزويج فيجري فيه مثل ذلك وزيادة نية تحصين الفرج، والعين، وسلامة الدين، وتكثير نسل المسلمين. وبهذه القصود الصحيحة تتحقق فيه العبادات العظيمة.

                                                                                              ولذلك اختلف العلماء في: أي الأمرين أفضل؟ التزويج أم التفرغ منه للعبادة؟ كما هو معروف في مسائل الخلاف. وعلى الجملة: فما من شيء من المباحات المستلذات وغيرها، إلا ويمكن لمن شرح الله صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله، وقصد نية التقرب بها، كما قد نص عليه المشايخ في كتبهم، كالحارث المحاسبي وغيره. ومن فهم هذا المعنى وحصله تحقق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حل من العبادات أعلاها؛ لانشراح صدره، وحضور قصده، ولعلمه بحدود الله، وبما يقرب منه، ولما لم ينكشف هذا المعنى للنفر السائلين عن عبادته استقلوها بناء منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة، والصوم، والانقطاع عن الملاذ. وهيهات بينهما ما بين الثريا والثرى، وسهيل والسها.

                                                                                              وعند الوقوف على ما أوضحناه من هذا الحديث يتحقق أن فيه ردا على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين ؛ إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه.

                                                                                              و (قوله: وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش ) قال البخاري بدل هذا الكلام: أما أنا فأصوم ولا أفطر. وهذا المساق أحسن؛ [ ص: 88 ] لأنه صلى الله عليه وسلم أجابهم في الروايتين بقوله: (لكني أصوم وأفطر) ولم يرو فيه مسلم جوابا عن الأكل والنوم على الفراش بأكثر من قوله: (لكني أصوم وأفطر) فبقي أكل اللحم، والنوم على الفراش بغير جواب، فكان مساق البخاري أولى، والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية