الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس

              لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه جليا كان أو خفيا ، هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا : ما جاز التخصيص به جاز النسخ به . وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد ، فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ .

              ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ والبيان تقرير والرفع إبطال ؟ وقال بعض أصحاب الشافعي : يجوز النسخ بالقياس الجلي ونحن نقول لفظ الجلي مبهم ، فإن أرادوا المقطوع به فهو صحيح وأما المظنون فلا . وما [ ص: 102 ] يتوهم القطع به على ثلاث مراتب :

              الأولى : ما يجري مجرى النص وأوضح منه ، كقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا ، فلو كان ورد نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا لأنه أظهر من المنطوق به .

              وفي درجته قوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الآية في أن ما هو فوق الذرة كذلك . وكذلك قوله تعالى : { وورثه أبواه فلأمه الثلث } في أن للأب الثلثين .

              الرتبة الثانية : لو ورد نص بأن العتق لا يسري في الأمة ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم { من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي } لقضينا بسراية عتق الأمة قياسا على العبد لأنه مقطوع به ، إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا .

              الرتبة الثالثة : أن يرد النص مثلا بإباحة النبيذ ، ثم يقول الشارع : حرمت الخمر لشدتها ، فينسخ إباحة النبيذ بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس وقال قوم : وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا إذ لا فرق بين قوله " حرمت كل منتبذ " وبين قوله " حرمت الخمر لشدتها " ، ولذلك أقر النظام بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لأصل القياس .

              ولنتبين أنه إن لم نتعبد بالقياس ، فقوله : حرمت الخمر عليكم لشدتها ، ليس قاطعا في تحريم النبيذ ، بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم زنا المحصن ، خاصة والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع . فإن قيل استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي ؟ قلنا الصحيح أنه سمعي ، ولا يستحيل عقلا أن يقال : تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر ، نعم يستحيل أن نتعبد بنسخ النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا لنفسه فيكون واجب العمل به وساقط العمل به .

              فإن قيل : فما الدليل على امتناعه سمعا ؟ قلنا : يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس مخالف للنص ، وقول معاذ رضي الله عنه : " أجتهد رأيي " بعد فقد النص وتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار الآحاد ، فكيف بالنص القاطع المتواتر ؟ واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد : " لولا هذا لقضينا برأينا " ولأن دلالة النص قاطع في المنصوص ودلالة الأصل على الفرع مظنون فكيف يترك الأقوى بالأضعف ؟ وهذا مستند الصحابة في إجماعهم على ترك القياس بالنص .

              فإن قيل : إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ ؟ قلنا : يحتمل أن يقال ذلك لأنه إذا ثبت الإحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط . ويحتمل أن يقال : النسخ إذا كان بالتأخر والمنسوخ قاطع فلا يكفي فيه قول الواحد فهذا في محل الاجتهاد ، والأظهر قبوله لأن أحد النصين منسوخ قطعا ، وإنما هذا مطلوب قبوله للتعين .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية