الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4795 باب في إثبات القدر وتحاج آدم وموسى عليهما السلام

                                                                                                                              ولفظ النووي : (باب حجاج آدم وموسى، صلى الله عليهما وسلم) .

                                                                                                                              قلت: «وتحاج» بفتح التاء، وتشديد الجيم. أصله: «تحاجج» بجيمين، أدغمت أولاهما في الأخرى.

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 201، 202 ج 16، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن أنس بن عياض، حدثني الحارث بن أبي ذباب، عن يزيد «وهو ابن هرمز»، وعبد الرحمن الأعرج، قالا: سمعنا أبا هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى، عليهما السلام، عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض؟

                                                                                                                              فقال آدم: أنت موسى، الذي اصطفاك الله برسالته، وبكلامه، وأعطاك الألواح، فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا. فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى قال: نعم. قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟».

                                                                                                                              قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «فحج آدم موسى») .


                                                                                                                              [ ص: 353 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 353 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة ) ، رضي الله عنه ؛ (قال: قال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: تحاج) وفي أكثر الروايات: «احتج» والأول أوضح.

                                                                                                                              (آدم وموسى، عليهما السلام) أي: تحاجا وتناظرا (عند ربهما) .

                                                                                                                              قال أبو الحسن القابسي: التقت أرواحهما في السماء، فوقع الحجاج بينهما.

                                                                                                                              قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره، وأنهما اجتمعا بأشخاصهما. وقد ثبت في حديث الإسراء: أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء في السماوات، وفي بيت المقدس، وصلى بهم.

                                                                                                                              قال: فلا يبعد أن الله تعالى أحياهم، كما جاء في الشهداء.

                                                                                                                              قال: ويحتمل أن ذلك جرى في حياة موسى، سأل الله تعالى أن يريه آدم، فحاجه. انتهى.

                                                                                                                              قال القسطلاني : يحتمل أنه في زمان موسى، فأحيا الله له آدم معجزة له، فكلمه. أو كشف له عن قبره فتحدثا، أو أراه الله روحه، كما أرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ليلة المعراج) : أرواح الأنبياء.

                                                                                                                              [ ص: 354 ] أو أراه الله في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي. أو كان ذلك بعد وفاة موسى، فالتقيا في البرزخ، أول ما مات موسى، فالتقت أرواحهما في السماء. وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي. أو أن ذلك لم يقع بعد، وإنما يقع في الآخرة، والتعبير عنه في الحديث بلفظ الماضي؛ لتحقق وقوعه. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وفي هذا بعد واضح.

                                                                                                                              والحديث أخرجه البخاري أيضا، في (باب تحاج موسى وآدم عند الله) وأبو داود، وابن ماجه، في (السنة) والنسائي في (التفسير) .

                                                                                                                              (فحج آدم موسى) هكذا الرواية، في جميع كتب الحديث -باتفاق الناقلين والرواة والشراح وأهل الغريب- برفع «آدم» على الفاعلية، ونصب «موسى» مفعولا، أي: غلبه بالحجة، بأن ألزمه أن ما صدر عنه لم يكن هو مستقلا به، متمكنا من تركه، بل كان قدرا من الله تعالى لا بد من إمضائه.

                                                                                                                              (قال موسى: أنت آدم، الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته) .

                                                                                                                              قال النووي : في «اليد» هنا مذهبان:

                                                                                                                              أحدهما: الإيمان بها، ولا يتعرض لتأويلها مع أن ظاهرها غير مراد.

                                                                                                                              الثاني: تأويلها على القدرة. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 355 ] والحق الذي لا محيص عنه: أنها على ظاهرها، ولا ضرورة تدعو إلى تأويلها «بالقدرة» فقد تظاهرت الأدلة (المحكمة، الصريحة، الصحيحة) من الكتاب والسنة على إثبات «يده» سبحانه وتعالى، بل يديه. ولم يذهب أحد من السلف المعتد بهم إلى تأويلها، ولا شك أن التأويل فرع التكذيب عند من يعرف مدارك الشرع، ويتأهل للفهم الصحيح.

                                                                                                                              وحديث الباب هذا: صريح في ثبوت اليد، ونفخ الروح، وإسجاد الملائكة لآدم، وإسكانه الجنة. وكل هذا على ظاهره. ولا يستقيم نقلا ولا عقلا أن تكون اليد مؤولة والباقي على الظاهر. بل حالة كل جملة من هذه الجمل أنها على ظاهر معناها، من دون تأويل، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. والله أعلم، وعلمه أحكم.

                                                                                                                              (ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض؟) .

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: «يا آدم! أنت أبونا، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة».

                                                                                                                              وفي لفظ: «أنت آدم، الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟».

                                                                                                                              [ ص: 356 ] وفي آخر: «أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟». أي: من دار النعيم والخلود، إلى دار البؤس والفناء.

                                                                                                                              (قال آدم) عليه السلام: (أنت موسى، الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا؟) .

                                                                                                                              وفي رواية: «فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده؟».

                                                                                                                              وفي آخر: «أنت الذي أعطاه الله علم كل شيء، واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم».

                                                                                                                              (فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها: «وعصى آدم ربه فغوى؟» قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟) أي: ما بين قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة إلى نفخ الروح فيه.

                                                                                                                              [ ص: 357 ] أو هي مدة لبثه طينا، إلى أن نفخت فيه الروح؛ ففي مسلم: «أن بين تصويره طينا ونفخ الروح فيه: كان أربعين سنة». أو المراد: إظهاره للملائكة.

                                                                                                                              وفي رواية الترمذي، وابن خزيمة : «فتلومني على شيء كتبه الله علي قبل خلقي؟».

                                                                                                                              وفي حديث أبي سعيد، عند البزار : «قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض؟» .

                                                                                                                              وفي رواية أخرى عند مسلم: «أتلومني على أمر قدره الله علي قبل .. إلخ».

                                                                                                                              وفي آخر: «على أمر قد قدر لي قبل أن أخلق».

                                                                                                                              [ ص: 358 ] وجمع: بحمل المقيد بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة.

                                                                                                                              والآخر: على ما يتعلق بالعلم.

                                                                                                                              (قال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: «فحج آدم موسى») أي: غلبه بالحجة، وظهر عليه بها.

                                                                                                                              ومعنى كلام آدم هذا: أنك يا موسى! تعلم أن هذا كتب الله علي قبل أن أخلق، وقدر علي، فلا بد من وقوعه. ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر. فلم تلومني على ذلك؟ ولأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي. وإذ تاب الله تعالى على آدم، وغفر له زال عنه اللوم. فمن لامه كان محجوجا بالشرع.

                                                                                                                              فإن قيل: فالعاصي منا، لو قال: «هذه المعصية، قدرها الله علي»: لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، وإن كان صادقا فيما قاله.

                                                                                                                              فالجواب: أن هذا العاصي باق في دار التكليف، جار عليه أحكام المكلفين: من العقوبة، واللوم، والتوبيخ، وغيرها. وفي لومه وعقوبته: زجر له ولغيره، عن مثل هذا الفعل. وهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت. فأما آدم فميت، خارج عن دار التكليف، وعن الحاجة إلى الزجر. فلم يكن في القول المذكور له فائدة، بل فيه إيذاء وتخجيل، والله أعلم. قاله النووي .

                                                                                                                              [ ص: 359 ] وفي رواية البخاري، بلفظ: «فحج آدم موسى» قالها ثلاثا. والجملة: مقررة لما سبق، وتأكيد له، وتثبيت للأنفس على توطين هذا الاعتقاد. أي: أن الله أثبته في أم الكتاب قبل كوني. وحكم بأنه كائن لا محالة. فكيف تغفل عن العلم السابق، وتذكر الكسب الذي هو السبب، وتنسى القدر الذي هو الأصل، وأنت من المصطفين الأخيار، الذين يشاهدون سر الله تعالى من وراء الأستار؟!

                                                                                                                              وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب، الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب. وإنما كانت في العالم العلوي، عند ملتقى الأرواح. واللوم إنما يتوجه على المكلف، ما دام في دار التكليف. أما بعدها فأمره إلى الله، لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه؛ فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق. فالتائب لا يلام على ما تيب منه. ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف. قاله القسطلاني. وهو موافق لما قاله النووي . وهو الظاهر من لفظ الحديث، حديث الباب. والله أعلم بالصواب.

                                                                                                                              [ ص: 360 ]



                                                                                                                              الخدمات العلمية