الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين .

[ ص: 104 ] الذي خلقني فهو يهدين أي يرشدني إلى الدين . والذي هو يطعمني ويسقين أي يرزقني . ودخول هو تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقي ; كما تقول : زيد هو الذي فعل كذا ; أي لم يفعله غيره . وإذا مرضت فهو يشفين قال : " مرضت " رعاية للأدب وإلا فالمرض والشفاء من الله عز وجل جميعا . ونظيره قول فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان . والذي يميتني ثم يحيين يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الأسباب ; فبين أن الله هو الذي يميت ويحيي . وكله بغير ياء : يهدين يشفين لأن الحذف في رءوس الآي حسن لتتفق كلها . وقرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحله من العربية هذا كله بالياء ; لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة . فإن قيل : فهذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته ولم يهتد بها غيره ؟ قيل : إنما ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة ; لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها ; وهذا إلزام صحيح .

قلت : وتجوز بعض أهل الإشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائة العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم . فقال : والذي هو يطعمني ويسقين أي يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول . ولهم في قوله : وإذا مرضت فهو يشفين وجهان : أحدهما : إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته . الثاني : إذا مرضت بمقاساة الخلق ، شفاني بمشاهدة الحق . وقال جعفر بن محمد الصادق : إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة . وتأولوا قوله : والذي يميتني ثم يحيين على ثلاثة أوجه : فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات . الثاني : يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء . الثالث : يميتني بالطمع ويحييني بالقناعة . وقول رابع : يميتني بالعدل ويحييني بالفضل . وقول خامس : يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق . وقول سادس : يميتني بالجهل ويحييني بالعقل ; إلى غير ذلك مما ليس بشيء منه مراد من الآية ; فإن هذه التأويلات الغامضة ، والأمور الباطنة ، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق ، وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة ، وتترك الأمور الظاهرة ؟ هذا محال . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية