الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور .

قوله تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا التقدير عند الفراء : من كان يريد علم العزة . وكذا قال غيره من أهل العلم . أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها ; لأن العزة إذا كانت تؤدي إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة ، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل . ( جميعا ) منصوب على الحال . وقدر الزجاج معناه : من كان يريد بعبادته الله - عز وجل - العزة - والعزة له سبحانه - فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا .

قلت : وهذا أحسن ، وروي مرفوعا على ما يأتي ( فلله العزة جميعا ) ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته ، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره ; فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك ، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس : ولا يحزنك قولهم إن العزة لله . ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق ; فتكون الألف واللام للاستغراق ، وهو المفهوم من آيات هذه السورة . فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل ، وسكون وخضوع ، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه ; قال صلى الله عليه وسلم : من تواضع لله [ ص: 295 ] رفعه الله . ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده . وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال : الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا . فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء . وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لقوله من كان يريد العزة فلله العزة جميعا : من أراد عز الدارين فليطع العزيز . وهذا معنى قول الزجاج . ولقد أحسن من قال :


وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها



فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، ويدخل دار العزة - ولله العزة - فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به ; فإنه من اعتز بالعبد أذله الله ، ومن اعتز بالله أعزه الله .

قوله تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب وتم الكلام . ثم تبتدئ والعمل الصالح يرفعه على معنى : يرفعه الله ، أو يرفع صاحبه . ويجوز أن يكون المعنى : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ; فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه . والصعود هو الحركة إلى فوق ، وهو العروج أيضا . ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض ، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله ; لأن موضع الثواب فوق ، وموضع العذاب أسفل . وقال الزجاج : يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه ; فهو بمعنى العلم . وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه . وقوله إليه أي إلى الله يصعد . وقيل : يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم . وقيل : أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء . و ( الكلم الطيب ) هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة . وقيل : هو التحميد والتمجيد ، وذكر الله ونحوه . وأنشدوا :


لا ترض من رجل حلاوة قوله     حتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله     فتوازنا فإخاء ذاك جمال



[ ص: 296 ] وقال ابن المقفع : قول بلا عمل ، كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . وفيه قيل :


لا يكون المقال إلا بفعل     كل قول بلا فعال هباء
إن قولا بلا فعال جميل     ونكاحا بلا ولي سواء



وقرأ الضحاك ( يصعد ) بضم الياء . وقرأ جمهور الناس ( الكلم ) جمع كلمة . وقرأ أبو عبد الرحمن ( الكلام ) .

قلت : فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس ; وعليه يخرج قول أبي القاسم : أقسام الكلام ثلاثة ; فوضع الكلام موضع الكلم ، والله أعلم . والعمل الصالح يرفعه قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب . وفي الحديث لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة . قال ابن عباس : فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ولم يؤد فرائضه رد قوله على عمله . قال ابن عطية : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس .

والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه ، وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك . وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح ، وإنما يستقيم قول من يقول : إن العمل هو الرافع للكلم ، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه . كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك ، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف ; فيكون قوله : والعمل الصالح يرفعه موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال . وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها ; كالتوحيد والتسبيح فمقبولة . قال ابن العربي : إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع ; لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه . وتحقيق هذا : أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا ، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له ، وعمله السيئ يكتب عليه ، وتقع الموازنة بينهما ، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران .

قلت : ما قال ابن العربي تحقيق . والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب . وقد جاء في الآثار : ( أن العبد إذا قال : لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى [ ص: 297 ] عمله ، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا ، وإن كان عمله مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله ) . فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله . والكناية في ( يرفعه ) ترجع إلى الكلم الطيب . وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك . وعلى أن الكلم الطيب هو التوحيد ، فهو الرافع للعمل الصالح ; لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد . أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ; فالكناية تعود على العمل الصالح . وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال : الكلم الطيب القرآن والعمل الصالح يرفعه القرآن . وقيل : تعود على الله جل وعز ; أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب ; لأن العمل تحقيق الكلم ، والعامل أكثر تعبا من القائل ، وهذا هو حقيقة الكلام ; لأن الله هو الرافع الخافض . والثاني والأول مجاز ، ولكنه سائغ جائز .

قال النحاس : القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به ، وأنه في العربية أولى ; لأن القراء على رفع العمل . ولو كان المعنى : والعمل الصالح يرفعه الله ، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ، لكان الاختيار نصف العمل . ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى بن عمر أنه قال : قرأه أناس والعمل الصالح يرفعه الله . وقيل : والعمل الصالح يرفع صاحبه ، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى ; ذكره القشيري .

الثانية : ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة ، فقرأ هذه الآية : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه . وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم ، وقد دخل في الصلاة بشروطها ، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك ; من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع . وقد تعلق من رأى ذلك بقوله عليه السلام : يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود فقلت : ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر ؟ فقال : إن الأسود شيطان خرجه مسلم . وقد جاء ما يعارض هذا ، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء ؟ فقال : لا [ ص: 298 ] يقطعها شيء ، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل ، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله .

قوله تعالى : والذين يمكرون السيئات ذكر الطبري في ( كتاب آداب النفوس ) : حدثني يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل : والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور قال : هم أصحاب الرياء ; وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة . وقال أبو العالية : هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة . وقال الكلبي : يعني الذين يعملون السيئات في الدنيا ، مقاتل : يعني الشرك ، فتكون السيئات مفعولة . ويقال : بار يبور إذا هلك وبطل . وبارت السوق أي كسدت ، ومنه : نعوذ بالله من بوار الأيم . وقوله : " وكنتم قوما بورا " أي هلكى . والمكر : ما عمل على سبيل احتيال وخديعة . وقد مضى في ( سبأ ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية