الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين

فيه ثلاثة وعشرون مسألة الأولى : لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام ، وأنه الذي بنى البيت ، فكان من حق اليهود - وهم من نسل إبراهيم - ألا يرغبوا عن دينه . والابتلاء : الامتحان والاختبار ، ومعناه أمر وتعبد . وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية : أب رحيم . قال السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ، لرحمته بالأطفال ، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين يموتون صغارا إلى يوم القيامة .

قلت : ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة ، وفيه : [ ص: 93 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس . وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة ، والحمد لله .

وإبراهيم هو ابن تارخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين . وفي التنزيل : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر وكذلك في صحيح البخاري ، ولا تناقض في ذلك ، على ما يأتي في " الأنعام " بيانه إن شاء الله تعالى . وكان له أربع بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن على ما ذكره السهيلي . وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب تبارك وتعالى مبتليا معلوم ، وكون الضمير المفعول في العربية متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام ، فاعلمه . وقراءة العامة إبراهيم بالنصب ، ربه بالرفع على ما ذكرنا . وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ على العكس ، وزعم أن ابن عباس أقرأه كذلك . والمعنى دعا إبراهيم ربه وسأل ، وفيه بعد ، لأجل الباء في قوله : بكلمات .

الثانية : بكلمات الكلمات جمع كلمة ، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى ، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما سمي عيسى كلمة ; لأنه صدر عن كلمة وهي كن . وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز ، قاله ابن العربي .

الثالثة : واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال : أحدها : شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما ، عشرة منها في سورة براءة : التائبون العابدون إلى آخرها ، وعشرة في الأحزاب : إن المسلمين والمسلمات إلى آخرها ، وعشرة في المؤمنون : قد أفلح المؤمنون إلى قوله : على صلواتهم يحافظون وقوله في سأل سائل : إلا المصلين إلى قوله : والذين هم على صلاتهم يحافظون . قال ابن عباس رضي الله [ ص: 94 ] عنهما : ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام ، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال : وإبراهيم الذي وفى . وقال بعضهم : بالأمر والنهي ، وقال بعضهم : بذبح ابنه ، وقال بعضهم : بأداء الرسالة ، والمعنى متقارب . وقال مجاهد : هي قوله تعالى : إني مبتليك بأمر ، قال : تجعلني للناس إماما ؟ قال نعم . قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال نعم . قال : وأمنا ؟ قال نعم . قال : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ؟ قال نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات ؟ قال نعم . وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم . وأصح من هذا ما ذكرهعبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن ابن عباس في قوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : ابتلاه الله بالطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الشعر . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاختتان ، ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط والبول بالماء ، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم ، وهو ظاهر القرآن . وروى مطرف عن أبي الجلد أنها عشر أيضا ، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم ، وموضع الاستنجاء الاستحداد . وقال قتادة : هي مناسك الحج خاصة . الحسن : هي الخلال الست : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان . قال أبو إسحاق الزجاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ; لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم عليه السلام .

قلت : وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قلم الأظفار ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقارا . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه [ ص: 95 ] قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله . قال غيره : وأول من ثرد الثريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل . وروى معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم .

قلت : وهذه أحكام يجب بيانها والوقف عليها والكلام فيها ، فأول ذلك " الختان " وما جاء فيه ، وهي المسألة :

الرابعة : أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن . واختلف في السن لي اختتن فيها ، ففي الموطأ عن أبي هريرة موقوفا : وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة . ومثل هذا لا يكون رأيا ، وقد رواه الأوزاعي مرفوعا عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة . ذكره أبو عمر . وروي مسندا مرفوعا من غير رواية يحيى من وجوه : أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم . كذا في صحيح مسلم وغيره " ابن ثمانين سنة " ، وهو المحفوظ في حديث ابن عجلان وحديث الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال عكرمة : اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة . قال : ولم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختون ، هكذا قال عكرمة وقال المسيب بن رافع ، ذكره المروزي . و " القدوم " يروى مشددا ومخففا . قال أبو الزناد : القدوم ( مشددا ) : موضع .

الخامسة : واختلف العلماء في الختان ، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال . وقالت طائفة : ذلك فرض ، لقوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا . قال قتادة : هو الاختتان ، وإليه مال بعض المالكيين ، وهو قول الشافعي . واستدل ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة ، [ ص: 96 ] وقال : لولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون . وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب ، والطب ليس بواجب إجماعا ، على ما يأتي في " النحل " بيانه إن شاء الله تعالى . وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه الحجاج بن أرطأة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الختان سنة للرجال مكرمة للنساء . والحجاج ليس ممن يحتج به .

قلت : أعلى ما يحتج به في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الفطرة خمس الاختتان . . . ) الحديث ، وسيأتي . وروى أبو داود عن أم عطية أن امرأة كانت تختن النساء بالمدينة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل . قال أبو داود : وهذا الحديث ضعيف راويه مجهول . وفي رواية ذكرها رزين : ولا تنهكي فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل .

السادسة : فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان . قال الميموني قال لي أحمد : إن ها هنا رجلا ولد له ولد مختون ، فاغتم لذلك غما شديدا ، فقلت له : إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا .

[ ص: 97 ] السابعة : قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الأحبار قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين : آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم . وقال محمد بن حبيب الهاشمي : هم أربعة عشر : آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان ( نبي أصحاب الرس ) ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين .

قلت : اختلفت الروايات في النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أبو نعيم الحافظ في " كتاب الحلية " بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا . وأسند أبو عمر في التمهيد حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس : أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه ، وجعل له مأدبة وسماه " محمدا " . قال أبو عمر : هذا حديث مسند غريب . قال يحيى بن أيوب : طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري . قال أبو عمر : وقد قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا .

الثامنة : واختلفوا متى يختن الصبي ، فثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا : ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة . وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام . وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع ، وأنكر ذلك مالك وقال ذلك من عمل اليهود . ذكره عنه ابن وهب . وقال الليث بن سعد : يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر . ونحوه روى ابن وهب عن مالك . وقال أحمد : لم أسمع في ذلك شيئا . وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس : مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أنا يومئذ مختون . قال : وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام .

[ ص: 98 ] واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختن ، وكان عطاء يقول : لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة . وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن ، ولا يرى به بأسا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته ، قال ابن عبد البر : وعامة أهل العلم على هذا . وحديث بريدة في حج الأغلف لا يثبت . وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد وعكرمة : أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته .

التاسعة : [ وأول من استحد ] فالاستحداد استعمال الحديد في حلق العانة . وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى ولي عانته بيده . وروى ابن عباس أن رجلا طلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ إلى عانته قال له : اخرج عني ، ثم طلى عانته بيده . وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور ، وكان إذا كثر الشعر على عانته حلقه . قال ابن خويز منداد : وهذا يدل على أن الأكثر من فعله كان الحلق وإنما تنور نادرا ، ليصح الجمع بين الحديثين .

العاشرة : في تقليم الأظفار . وتقليم الأظفار : قصها ، والقلامة ما يزال منها . وقال مالك : أحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال . ذكره الحارث بن مسكين وسحنون عن ابن القاسم . وذكر الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " له ( الأصل التاسع والعشرون ) : حدثنا عمر بن أبي عمر قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمر بن بلال الفزاري قال : سمعت عبد الله بن بشر المازني يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا علي قخرا بخرا ثم تكلم عليه فأحسن . قال الترمذي : فأما قص الأظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر ، وهو مجتمع الوسخ ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا . ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله ، فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار . والأظافير جمع الأظفور ، والأظفار جمع الظفر . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته فقال : وما لي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث . وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بإلكيا في " أحكام القرآن " له ، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال : أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته ، فرأى [ ص: 99 ] في أظفاري طولا فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء فقال : يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث .

وأما قوله : ادفنوا قلاماتكم فإن جسد المؤمن ذو حرمة ، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم ، فيحق عليه أن يدفنه ، كما أنه لو مات دفن ، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه ، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب . حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز قال : سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم ، فلما فرغ قال : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد . فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه ، فلما رجع قال : يا عبد الله ما صنعت به ؟ . قال : جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس . قال : لعلك شربته ؟ قال نعم . قال : لم شربت الدم ، وويل للناس منك وويل لك من الناس . حدثني أبي قال : حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال : حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان : الشعر ، والظفر ، والدم ، والحيضة ، والسن ، والقلفة ، والبشيمة .

وأما قوله : نقوا براجمكم فالبراجم تلك الغضون من المفاصل ، وهي مجتمع الدرن ( واحدها برجمة ) وهو ظهر عقدة كل مفصل ، فظهر العقدة يسمى برجمة ، وما بين العقدتين تسمى راجبة ، وجمعها رواجب ، وذلك مما يلي ظهرها ، وهي قصبة الأصبع ، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين ، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة ، ويحول الدرن بين الماء والبشرة .

وأما قوله : نظفوا لثاتكم فاللثة واحدة ، واللثات جماعة ، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان ، وهي منابتها . والعمور : اللحمة القليلة بين السنين ، واحدها عمر . فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها ويضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ، ويتأذى الملكان ; لأنه طريق القرآن ، ومقعد الملكين عند نابيه . وروي في الخبر في قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ص: 100 ] قال : عند نابيه . حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال : سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة وجاد ما قال ، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز . وقوله : لديه أي عنده ، والدى والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد ، وكذلك قولهم " لدن " فالنون زائدة . فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب .

وأما قوله : تسننوا وهو السواك مأخوذ من السن ، أي نظفوا السن .

وقوله : لا تدخلوا علي قخرا بخرا فالمحفوظ عندي ( قحلا وقلحا ) . وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال : الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها ، ولا أعرف القخر . والبخر : الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته ، يقال : رجل أبخر ، ورجال بخر . حدثنا الجارود قال : حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استاكوا ، ما لكم تدخلون علي قلحا .

الحادية عشرة : في قص الشارب . وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ، ولا يجزه فيمثل نفسه ، قاله مالك . وذكر ابن عبد الحكم عنه قال : وأرى أن يؤدب من حلق شاربه . وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب : هذه بدع ، وأرى أن يوجع ضربا من فعله . وقال ابن خويز منداد قال مالك : أرى أن يوجع من حلقه ضربا . كأنه يراه ممثلا بنفسه ، وكذلك بنتفه الشعر ، وتقصيره عنده أولى من حلقه . وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذا لمة ، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر ، وإنما حلق وحلقوا في النسك . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة . وقال الطحاوي : لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا ، وأصحابه الذين رأيناهم : المزني والربيع كانا [ ص: 101 ] يحفيان شواربهما ، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى . قال : وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير . وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء . وقال أبو بكر الأثرم : رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا ، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال : يحفى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : أحفوا الشوارب . قال أبو عمر : إنما في هذا الباب أصلان : أحدهما : أحفوا ، وهو لفظ محتمل التأويل . والثاني : قص الشارب ، وهو مفسر ، والمفسر يقضي على المجمل ، وهو عمل أهل المدينة ، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب . روى الترمذي عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من شاربه ويقول : إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله . قال : هذا حديث حسن غريب . وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط . وفيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى . والأعاجم يقصون لحاهم ، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا ، وذلك عكس الجمال والنظافة . ذكر رزين عن نافع أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد ، ويأخذ هذين ، يعني ما بين الشارب واللحية . وفي البخاري : وكان ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر . وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها . قال : هذا حديث غريب .

الثانية عشرة : وأما الإبط فسنته النتف ، كما أن سنة العانة الحلق ، فلو عكس جاز لحصول النظافة ، والأول أولى ; لأنه المتيسر المعتاد .

[ ص: 102 ] الثالثة عشرة : وفرق الشعر : تفريقه في المفرق ، وفي صفته صلى الله عليه وسلم : إن انفرقت عقيصته فرق ، يقال : فرقت الشعر أفرقه فرقا ، يقال : إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه ، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة . خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره ، وكان المشركون يفرقون شعورهم ، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس . قال القاضي عياض : سدل الشعر إرساله ، والمراد به ها هنا عند العلماء إرساله على الجبين ، واتخاذه كالقصة ، والفرق في الشعر سنة ; لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد روي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره . وقد قيل : إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام ، فالله أعلم .

الرابعة عشرة : وأما الشيب فنور ويكره نتفه ، ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة .

قلت : وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد ، فأما تغييره بغير السواد فجائز ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حق أبي قحافة - وقد جيء به ولحيته كالثغامة بياضا - : غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد . ولقد أحسن من قال :

يسود أعلاها ويبيض أصلها ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل



وقال الآخر :

يا خاضب الشيب بالحناء تستره     سل المليك له سترا من النار



[ ص: 103 ] الخامسة عشرة : وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة ، وهو طعام العرب ، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال : فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . وفي صحيح البستي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه أعظم للبركة .

السادسة عشرة : قلت : وهذا كله في معنى ما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس ، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره . ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة " النساء " وحكم الاستنجاء في " براءة " وحكم الضيافة في " هود " إن شاء الله تعالى . وخرج مسلم عن أنس قال : وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة ، قال علماؤنا : هذا تحديد في أكثر المدة ، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة ، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان . قال العقيلي : في حديثه نظر . وقال أبو عمر فيه : ليس بحجة ، لسوء حفظه وكثرة غلطه . وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل ; ولكنه قد قال به قوم ، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك ، وبالله التوفيق .

السابعة عشرة : قوله تعالى : قال إني جاعلك للناس إماما

الإمام : القدوة ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ; لأنه يؤم فيه للمسالك ، أي يقصد . فالمعنى : جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون . فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته ، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه - والله أعلم - أنه كان حنيفا .

الثامنة عشرة : قال ومن ذريتي دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى ، أي من ذريتي يا رب فاجعل . وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون ؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الإمامة . قال ابن عباس : سأل [ ص: 104 ] إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام ، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال : لا ينال عهدي الظالمين .

التاسعة عشرة : قوله تعالى : ومن ذريتي أصل ذرية ، فعلية من الذر ; لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم . وقيل : هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم ، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين ، إلا أن العرب تركت همزها ، والجمع الذراري . وقرأ زيد بن ثابت " ذرية " بكسر الذال و " ذرية " بفتحها . قال ابن جني أبو الفتح عثمان : يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ : أحدها : ذرأ ، والثاني : ذرر ، والثالث : ذرو ، والرابع : ذري ، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق ، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه ، وذلك لما ورد في الخبر ( أن الخلق كان كالذر ) وأما الواو والياء ، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا ، وذلك قوله تعالى : فأصبح هشيما تذروه الرياح وهذا للطفه وخفته ، وتلك حال الذر أيضا . قال الجوهري : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا أي نسفته ، ومنه قولهم : ذرى الناس الحنطة ، وأذريت الشيء إذا ألقيته ، كإلقائك الحب للزرع . وطعنه فأذراه عن ظهر دابته ، أي ألقاه . وقال الخليل : إنما سموا ذرية ; لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر . وقيل : أصل ذرية ، ذرورة ، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء ، فصارت ذروية ، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية . والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة ، وقد تطلق على الآباء والأبناء ، ومنه قوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم يعني آباءهم .

الموفية عشرين : قوله تعالى : قال لا ينال عهدي الظالمين اختلف في المراد بالعهد ، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة ، وقاله السدي . مجاهد : الإمامة . قتادة : الإيمان . عطاء : الرحمة . الضحاك : دين الله تعالى . وقيل : عهده أمره . ويطلق العهد على الأمر ، قال الله تعالى : إن الله عهد إلينا أي أمرنا . وقال : ألم أعهد إليكم يابني آدم يعني ألم أقدم إليكم الأمر به ، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله : لا ينال عهدي الظالمين أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها ، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا إن شاء الله تعالى . وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين قال : لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به ، وأكل وعاش [ ص: 105 ] وأبصر . قال الزجاج : وهذا قول حسن ، أي لا ينال أماني الظالمين ، أي لا أؤمنهم من عذابي . وقال سعيد بن جبير : الظالم هنا المشرك . وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف لا ينال عهدي الظالمون برفع الظالمون . الباقون بالنصب . وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في عهدي ، وفتحها الباقون .

الحادية والعشرون : استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك ، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله ، على ما تقدم من القول فيه . فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل ، لقوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم . وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج ، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم ، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة .

والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ; لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي السفهاء ، وشن الغارات على المسلمين ، والفساد في الأرض . والأول مذهب طائفة من المعتزلة ، وهو مذهب الخوارج ، فاعلمه .

الثانية والعشرون : قال ابن خويز منداد : وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ، ولا إمام صلاة ، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ، ولا تقبل شهادته في الأحكام ، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد . وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض . وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد ، ولم يخرقوا الإجماع ، أو يخالفوا النصوص . وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة ، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم ، ولا نقضوا شيئا منها ، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا ، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم .

الثالثة والعشرون : قال ابن خويز منداد : وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه ، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره . وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه ، ويجوز للمحتاج أخذه ، وهو كلص في يده مال مسروق ، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة ، وإن كان قد [ ص: 106 ] يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق ، إذا لم يكن شيء معروف بنهب ، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما - وإن كان الورع التنزه عنه - وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها . وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم . ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب ، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق ، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد ، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية