الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قيل : الخطاب للحمس ، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات ، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم ، وكانوا يقولون : نحن قطين الله ، فينبغي لنا أن نعظم الحرم ، ولا نعظم شيئا من الحل ، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم ، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة ، فقيل لهم : أفيضوا مع الجملة . وثم ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة ، وقال الضحاك : المخاطب بالآية جملة الأمة ، والمراد ب الناس إبراهيم عليه السلام ، كما قال : الذين قال لهم الناس وهو يريد واحدا . ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة ، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى ، وهي التي من المزدلفة ، فتجيء " ثم " على هذا الاحتمال على بابها ، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري ، والمعنى : أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع ، أي ثم أفيضوا إلى منى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع .

[ ص: 396 ] قلت : ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة ، للأمر بالإفاضة منها ، والله أعلم ، والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول . روى الترمذي عن عائشة قالت : كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون : نحن قطين الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ، فأنزل الله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس هذا حديث حسن صحيح ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : الحمس هم الذين أنزل الله فيهم : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قالت : كان الناس يفيضون من عرفات ، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة ، يقولون : لا نفيض إلا من الحرم ، فلما نزلت : أفيضوا من حيث أفاض الناس رجعوا إلى عرفات ، وهذا نص صريح ، ومثله كثير صحيح ، فلا معول على غيره من الأقوال . والله المستعان ، وقرأ سعيد بن جبير " الناسي " وتأويله آدم عليه السلام ، لقوله تعالى : فنسي ولم نجد له عزما ، ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس ، كالقاض والهاد . ابن عطية : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه ، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ، ومظان القبول ومساقط الرحمة ، وقالت فرقة : المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة .

الثانية : روى أبو داود عن علي قال : فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قزح فقال : هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم . فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة أن يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الإمام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام ، وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس ، ثم يدفعون قبل الطلوع ، على مخالفة العرب ، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون : أشرق ثبير ، كيما نغير ، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة ، وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال : شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال : إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون : أشرق [ ص: 397 ] ثبير ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس ، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا ، أخر الدفع من عرفة ، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدي المشركين .

الثالثة : فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة ، وهو أن يسير الإمام بالناس سير العنق ، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا ، والعنق : مشي للدواب معروف لا يجهل ، والنص : فوق العنق ، كالخبب أو فوق ذلك . وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسئل : كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة ؟ قال : كان يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص . قال هشام : والنص فوق العنق ، وقد تقدم ، ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر ، فإن لم يفعل فلا حرج ، وهو من منى ، وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال : دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم : أوضعوا في وادي محسر وقال لهم : خذوا عني مناسككم ، فإذا أتوا منى وذلك غدوة يوم النحر ، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا ، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار ، ويرمونها بسبع حصيات ، كل حصاة منها مثل حصى الخذف - على ما يأتي بيانه - فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله ، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه . وقال عمر بن الخطاب وابن عمر : يحل له كل شيء إلا النساء والطيب ، ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية ، لما جاء في ذلك ، ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء . وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : يحل له كل شيء إلا النساء ، وروي عن ابن عباس .

الرابعة : ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة ، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها ، وهو جائز مباح عند مالك ، والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة ، على ما ذكر في موطئه عن علي ، وقال : هو الأمر عندنا .

[ ص: 398 ] قلت : والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس ، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا : عليكم بالسكينة وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا ( وهو من منى ) قال : عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة ، وقال : لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة . في رواية : والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان ، وفي البخاري عن عبد الله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ، ورمى بسبع وقال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم وروى الدارقطني عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب ، وفي البخاري عن عائشة قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين ، حين أحرم ، ولحله حين أحل قبل أن يطوف ، وبسطت يديها ، وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء . والتحلل الأكبر : طواف الإفاضة ، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام وسيأتي ذكره في سورة " الحج " إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية