الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين

قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير قال الزهري : صاح الشيطان يوم أحد : قتل محمد ; فانهزم جماعة من المسلمين . قال كعب بن مالك : فكنت أول من عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأومأ إلي أن اسكت ، فأنزل الله عز وجل : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا الآية . و كأين بمعنى كم . قال الخليل وسيبويه : هي أي دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا ; لأنها كلمة . نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها ، ثم كثر استعمالها فتلعبت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف ، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها . وقرأ ابن كثير " وكائن " مثل وكاعن ، على وزن فاعل ، وأصله كيء فقلبت الياء ألفا ، كما قلبت في ييأس فقيل ياءس ; قال الشاعر :


وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا

وقال آخر :


وكائن رددنا عنكم من مدجج     يجيء أمام الركب يردي مقنعا

[ ص: 217 ] وقال آخر :


وكائن في المعاشر من أناس     أخوهم فوقهم وهم كرام

وقرأ ابن محيصن " وكئن " مهموزا مقصورا مثل وكعن ، وهو من كائن حذفت ألفه . وعنه أيضا " وكأين " مثل وكعين وهو مقلوب كيء المخفف . وقرأ الباقون كأين بالتشديد مثل كعين وهو الأصل ، قال الشاعر :


كأين من أناس لم يزالوا     أخوهم فوقهم وهم كرام

وقال آخر :


كأين أبدنا من عدو بعزنا     وكائن أجرنا من ضعيف وخائف

فجمع بين لغتين : كأين وكائن ، ولغة خامسة كيئن مثل كيعن ، وكأنه مخفف من كيء مقلوب كأين . ولم يذكر الجوهري غير لغتين : كائن مثل كاعن ، وكأين مثل كعين ; تقول كأين رجلا لقيت ; بنصب ما بعد كأين على التمييز . وتقول أيضا : كأين من رجل لقيت ; وإدخال " من " بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود . وبكأين تبيع هذا الثوب ؟ أي بكم تبيع ; قال ذو الرمة :


وكائن ذعرنا من مهاة ورامح     بلاد العدا ليست له ببلاد

قال النحاس : ووقف أبو عمرو " وكأي " بغير نون ; لأنه تنوين . وروى ذلك سورة بن المبارك عن الكسائي . ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف . ومعنى الآية تشجيع المؤمنين ، والأمر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء ; أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير ، أو كثير من الأنبياء قتلوا فما ارتد أممهم ; قولان : الأول للحسن وسعيد بن جبير . قال الحسن : ما قتل نبي في حرب قط . وقال ابن جبير : ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال . والثاني عن قتادة وعكرمة . والوقف - على هذا القول - على " قتل " جائز ، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب . وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم . وفيه وجهان : أحدهما أن يكون " قتل " واقعا على النبي وحده ، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله " قتل " ويكون في الكلام إضمار ، أي ومعه ربيون كثير ; كما يقال : قتل الأمير معه جيش عظيم ، أي ومعه جيش . وخرجت معي تجارة ; أي ومعي . الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه ; تقول العرب : قتلنا بني تميم وبني سليم ، وإنما قتلوا بعضهم . ويكون قوله فما وهنوا راجعا إلى من بقي منهم . قلت : وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل ، وقتل معه جماعة من أصحابه . وقرأ [ ص: 218 ] الكوفيون وابن عامر قاتل وهي قراءة ابن مسعود ; واختارها أبو عبيد وقال . إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم ; فقاتل أعم وأمدح . و " الربيون " بكسر الراء قراءة الجمهور . وقراءة علي - رضي الله عنه - بضمها . وابن عباس بفتحها ; ثلاث لغات . والربيون الجماعات الكثيرة ; عن مجاهد . وقتادة والضحاك وعكرمة ، واحدهم ربي بضم الراء وكسرها ; منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها ، وهي الجماعة . وقال عبد الله بن مسعود : الربيون الألوف الكثيرة . وقال ابن زيد : الربيون الأتباع . والأول أعرف في اللغة ; ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح : ربة وربة . والرباب قبائل تجمعت . وقال أبان بن ثعلب : الربي عشرة آلاف . وقال الحسن : هم العلماء الصبر . ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي : الجمع الكثير ; قال حسان :


وإذا معشر تجافوا عن الحق     حملنا عليهم ربيا

وقال الزجاج : هاهنا قراءتان " ربيون " بضم الراء " وربيون " بكسر الراء ; أما الربيون ( بالضم ) : الجماعات الكثيرة . ويقال : عشرة آلاف . قلت : وقد روي عن ابن عباس " ربيون " بفتح الراء منسوب إلى الرب . قال الخليل : الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء . وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى ، والله أعلم .

قوله تعالى : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وهنوا أي ضعفوا ، وقد تقدم . والوهن انكسار الجد بالخوف . وقرأ الحسن وأبو السمال " وهنوا " بكسر الهاء وضمها ، لغتان عن أبي زيد . وهن الشيء يهن وهنا . وأوهنته أنا ووهنته ضعفته . والواهنة : أسفل الأضلاع وقصارها . والوهن من الإبل : الكثيف . والوهن : ساعة تمضي من الليل ، وكذلك الموهن . وأوهنا صرنا في تلك الساعة ; أي ما وهنوا لقتل نبيهم ، أو لقتل من قتل منهم ، أي ما وهن باقيهم ; فحذف المضاف . وما ضعفوا أي عن عدوهم . وما استكانوا أي لما أصابهم في الجهاد . والاستكانة : الذلة والخضوع ; وأصلها " استكنوا " على افتعلوا ; فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف . ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا ; والأول أشبه بمعنى الآية . وقرئ " فما وهنوا وما ضعفوا " بإسكان الهاء والعين . وحكى الكسائي " ضعفوا " بفتح العين . ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت ، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة ، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا ، وبالنصر على أعدائهم . وخصوا الأقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها . يقول : فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ؟ فأجاب [ ص: 219 ] دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها . وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه ، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق ، وقوله الصدق . والله يحب الصابرين يعني الصابرين على الجهاد . وقرأ بعضهم " وما كان قولهم " بالرفع ; جعل القول اسما لكان ; فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان . واسمها إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا يعني الصغائر وإسرافنا يعني الكبائر . والإسراف : الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو بهذا الدعاء اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني وذكر الحديث . فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه ، ولا يقول أختار كذا ; فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون .

التالي السابق


الخدمات العلمية