الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ( 47 ) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ( 48 ) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( 49 ) ) .

قال ابن جرير : يقول الله تعالى : كما أنزلنا الكتب على من قبلك - يا محمد - من الرسل ، كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب .

وهذا الذي قاله حسن ومناسبة وارتباط جيد .

وقوله : ( فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) أي : الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء ، كعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وأشباههما .

وقوله : ( ومن هؤلاء من يؤمن به ) ، يعني العرب من قريش وغيرهم ، ( وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ) ، أي : ما يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل ، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل ، وهيهات .

ثم قال تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) ، أي : قد لبثت في قومك - يا محمد - ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة ، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب . وهكذا صفته في الكتب المتقدمة ، كما قال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) الآية [ الأعراف : 157 ] . وهكذا كان ، صلوات الله وسلامه عليه [ دائما أبدا ] إلى يوم القيامة ، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده ، بل كان له كتاب يكتبون بين [ ص: 286 ] يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم . ومن زعم من متأخري الفقهاء ، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام ، كتب يوم الحديبية : " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : " ثم أخذ فكتب " : وهذه محمولة على الرواية الأخرى : " ثم أمر فكتب " . ولهذا اشتد النكير بين فقهاء المغرب والمشرق على من قال بقول الباجي ، وتبرءوا منه ، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم : وإنما أراد الرجل - أعني الباجي ، فيما يظهر عنه - أنه كتب ذلك على وجه المعجزة ، لا أنه كان يحسن الكتابة ، كما قال ، عليه الصلاة والسلام إخبارا عن الدجال : " مكتوب بين عينيه كافر " وفي رواية : " ك ف ر ، يقرؤها كل مؤمن " ، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت ، عليه السلام حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له ; قال الله تعالى : ( وما كنت تتلو ) أي : تقرأ ( من قبله من كتاب ) لتأكيد النفي ، ( ولا تخطه بيمينك ) تأكيد أيضا ، وخرج مخرج الغالب ، كقوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام : 38 ] .

وقوله : ( إذا لارتاب المبطلون ) أي : لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول : إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء ، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) [ الفرقان : 5 ] ، قال الله تعالى : ( قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) [ الفرقان : 6 ] ، وقال هاهنا : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) أي : [ هذا ] القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق ، أمرا ونهيا وخبرا ، يحفظه العلماء ، يسره الله عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا ، كما قال تعالى : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [ القمر : 17 ] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا " .

وفي حديث عياض بن حمار ، في صحيح مسلم : " يقول الله تعالى : إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان " . أي : لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل ، كما جاء في الحديث الآخر : " لو كان القرآن في إهاب ، ما أحرقته النار " ، لأنه محفوظ في الصدور ، ميسر على الألسنة ، مهيمن على القلوب ، معجز لفظا ومعنى ; ولهذا جاء في الكتب المتقدمة ، في صفة هذه الأمة : " أناجيلهم في صدورهم " .

[ ص: 287 ]

واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) ، بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابا ولا تخطه بيمينك ، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب . ونقله عن قتادة ، وابن جريج . وحكى الأول عن الحسن [ البصري ] فقط .

قلت : وهو الذي رواه العوفي عن عبد الله بن عباس ، وقاله الضحاك ، وهو الأظهر ، والله أعلم .

وقوله : ( وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ) أي : ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون ، أي : المعتدون المكابرون ، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه ، كما قال تعالى : ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون . ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) [ يونس : 96 ، 97 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية