الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما قوله تعالى : ترهبون به عدو الله وعدوكم فمعناه : أعدوا لهم ما استطعتم من القوة الحربية الشاملة لجميع عتاد القتال وما يحتاج إليه الجند ، ومن الفرسان المرابطين في ثغوركم وأطراف بلادكم حالة كونكم ترهبون بهذا الإعداد - أو المستطاع من القوة والرباط - عدو الله الكافرين به ، وبما أنزله على رسوله ، وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر ويناجزونكم الحرب عند الإمكان . والإرهاب : الإيقاع في الرهبة ، ومثلها الرهب بالتحريك ، وهو الخوف المقترن بالاضطراب ، كما قال الراغب . وكان مشركو مكة ومن والاهم هم الجامعين لهاتين العداوتين في وقت نزول الآية عقب غزوة بدر ، وفيهم نزل في المدينة : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( 60 : 1 ) وقيل : يدخل فيهم أيضا من والاهم من اليهود كبني قريظة . وقيل : لا ، وإيمان هؤلاء بالله وبالوحي لم يكن يومئذ على الوجه الحق الذي يرضي الله تعالى ، واليهود الذين والوهم على عداوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم المعنيون أو بعض المعنيين بقوله تعالى : وآخرين من دونهم أي : وترهبون به أناسا من غير هؤلاء الأعداء المعروفين أو من ورائهم لا تعلمونهم الله يعلمهم أي : لا تعلمون الآن عداوتهم ، أو لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم بل الله يعلمهم وهو علام الغيوب . قال مجاهد : هم بنو قريظة ، وعزاه البغوي إلى مقاتل وقتادة أيضا . وقال السدي : هم أهل فارس قال مقاتل وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون . وسيأتي توجيهه ، وقال السهيلي : المراد كل من لا تعرف عداوته ، والمعنى أنه عام فيهم وفي غيرهم من الأقوام الذين أظهرت الأيام بعد ذلك عداوتهم للمسلمين في عهد الرسول ومن بعده كالروم ، وعجيب ممن ذكر الفرس في تفسيرها ولم يذكر الروم الذين كانوا أقرب إلى جزيرة العرب ، بل قال بعضهم ما معناه : إنه يشمل من عادى جماعة المسلمين وأئمتهم من المسلمين أنفسهم وقاتلهم ، كالمبتدعة الذين خرجوا على الجماعة وقاتلوهم أو أعانوا أعداءهم عليهم . وقال الحسن : هم الشياطين والجن ورووا فيه حديثا عن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق " قال الآلوسي : وروي ذلك عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضا واختاره الطبري ، وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه . اهـ . وهو ظاهر في اختياره له بظنه أن الحديث صحيح ، وبمثل هذه الروايات المنكرة عن المجهولين يصرفون المسلمين عن المقاصد المهمة التي عليها مدار شوكتهم وحياتهم ، إلى مثل هذا المعنى الخرافي الذي حاصله أن اقتناء الخيل العتاق يرهب [ ص: 56 ] الجن ويحفظ الناس من خبلهم ، كأنها تعاويذ للوقاية من الجنون ، لا عدة لإرهاب العدو ، وهو خلاف المتبادر من الآية ، ومن سائر السياق الذي هو في قتال المحاربين من أعداء المؤمنين ، والحديث فيه لم يصح ، قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورده : وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه اهـ .

                          وأقول : إن من سقطات ابن جرير اختياره له ، واستدلاله على بطلان سائر الأقوال التي رواها في معنى الآية وتقدم ذكرها بقوله تعالى : لا تعلمونهم الله يعلمهم وزعمه أنهم كانوا يعلمون عداوة بني قريظة وفارس والمنافقين لهم قبل نزول الآية وهو غير مسلم على إطلاقه ، فأما نقض قريظة للعهد فقد اعتذروا عنه فقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عذرهم ولم يعاملهم معاملة الأعداء ولا سيما عند نزول هذه السورة عقب غزوة بدر ، وأما الفرس فلم تكن عداوتهم تخطر ببال أحد من المسلمين في ذلك العهد ، وكذلك المنافقون لم يكونوا يعدون من الأعداء الذين يرهبون بإعداد قوى الحرب ورباط الخيل ، إذ لم يفضح الوحي كفر الكثيرين منهم إلا بعد ذلك في غزوة تبوك وبقي باقيهم على ظاهر إسلامه ، قال ابن كثير بعد نقل الأقوال السابقة وما تقدم عنه في حديث عبد الله بن غريب : وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون . وهذا أشبه الأقوال ويشهد له قوله تعالى : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ( 9 : 101 ) اهـ . وقال بعضهم بالوقف عن تعيينهم ، لقوله تعالى لنبيه : لا تعلمهم نحن نعلمهم ولكن عدم علمهم عند نزول الآية لا ينافي هذا العلم بعد ذلك . والمختار عندنا أن العبارة تشمل كل من ظهرت عداوته بعد ذلك لجماعة المسلمين من أعداء الله ورسوله ، ومن المبتدعين في دينه الكارهين لجماعة المسلمين كما تقدم بعد نقل عبارة السهيلي .

                          وقال الرازي في التعليل : ثم إن الله تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال : ترهبون به عدو الله وعدوكم وذلك أن الكفار إذا علموا أن كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم ، وذلك الخوف يفيد أمورا كثيرة : ( أولها ) أنهم لا يقصدون دار الإسلام . ( وثانيها ) أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية . ( وثالثها ) أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان ( ورابعها ) أنهم لا يعينون سائر الكفار . ( وخامسها ) أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام .

                          ثم قال في تفسير الآخرين من دونهم : والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء ، كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ، ثم فيه وجوه الأول وهو الأصح أنهم هم المنافقون - وبينه من وجهين : ( الأول ) أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع طمعهم من أن يصيروا مغلوبين ، وذلك يحملهم [ ص: 57 ] على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان . ( الثاني ) أن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ، ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين ، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم ، وترك هذه الأفعال المذمومة اهـ . وكل ما قاله حسن وصواب إلا قوله بترك المنافق للكفر الذي في قلبه إلخ . ففيه أن ذلك ليس باختياره . والأولى أن يقال : إنه يوطن نفسه على أعمال الإسلام حتى يرجى أن يصير مخلصا بظهور محاسن الإسلام له بعد خفائها عنه بتوقعه هلاك المسلمين .

                          وقالوا : العلم هنا بمعنى المعرفة ؛ لأنه تعدى إلى مفعول واحد من البسائط ، أي لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم . وما عليه الجمهور من عدم إسناد المعرفة إلى الله تعالى . أو وصفه بها خاص بلفظها ، أو بما يشعر بما خصوا بها معناها من كونه إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره ، كما قال الراغب . وقيل : إن المراد لا تعلمونهم معادين لكم ، ويعلله من قال : هم المنافقون بأنهم مردوا على النفاق وأتقنوه بحيث لا يظهر منهم ما يفضحهم فيه .

                          أقول : وهذا التقييد لإعداد المستطاع من القوة ومن رباط الخيل بقصد إرهاب الأعداء المجاهرين والأعداء المستخفين وغير المعروفين - ومن سيظهر من الأعداء للمؤمنين كالفرس والروم - دليل على تفضيل جعله سببا لمنع الحرب على جعله سببا لإيقاذ نارها ، فهو يقول : استعدوا لها ليرهبكم الأعداء عسى أن يمتنعوا عن الإقدام على قتالكم ، وهذا عين ما يسمى في عرف دول هذه الأيام بالسلام المسلح ، بناء على أن الضعف يغري الأقوياء بالتعدي على الضعفاء ، ولكن الدول الاستعمارية تدعي هذا بألسنتها وهي كاذبة في دعواها أنها تقصد بالاستعداد للحرب حفظ السلم العام ، وكان يظن أنهم يقصدون السلم الخاص بدول أوربة ، وأن الحرب امتنعت منها ، فأبطلت ذلك الظن الحرب العامة الأخيرة التي كانت أشد حروب التاريخ أهوالا وتقتيلا وتخريبا ، والإسلام ليس كذلك ؛ لأنه تعبد الناس بهذه النصوص تعبدا ، ويؤيد هذا المعنى آية السلم التي تلي هذه الآية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية