الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وهذا هو الصنف الثالث من أصناف المؤمنين ، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم [ ص: 97 ] وهي دار الحرب والشرك بخلاف من يأسره الكفار من أهل دار الإسلام ، فله حكم أهل هذه الدار ، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بما يستطيعون من حول وقوة باتفاق العلماء ، بل يجب مثل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا ، وكان حكم غير المهاجرين أنهم لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام ، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم ، ولا إلى تنفيذ هؤلاء لأحكام الإسلام فيهم ، والولاية حق مشترك على سبيل التبادل .

                          ولكن الله خص من عموم الولاية المنفية الشاملة لما ذكرنا من الأحكام شيئا واحدا فقال : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر فأثبت لهم من ولاية أهل دار الإسلام حق نصرهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم ، وإن كانوا هم لا ينصرون أهل دار الإسلام لعجزهم . ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقال : إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق يعني إنما يجب عليكم أن تنصروهم إذا استنصروكم في الدين على الكفار الحربيين دون المعاهدين ، فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم ؛ لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض العهود والمواثيق كما تقدم في تفسير آية : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( 8 : 58 ) .

                          وهذا الحكم من أركان سياسة الإسلام الخارجية العادلة ، ومن المعلوم بالبداهة أن العهد الذي يكون بين المسلمين الذين في دار الإسلام وبين الكفار لا ينتقض بتعديهم على المسلمين الخارجين من دار الإسلام التي يسمى رئيسها خليفة الإسلام ، والإمام الأعظم والإمام الحق ( وهو الذي يقيم أحكام الإسلام وحدوده ويحمي دعوته ) وإن ألف هؤلاء المسلمون غير الخاضعين للإمام الحق حكومة أو حكومات لهم ، وإنما ينتقض عهدهم بتعديهم على حكومة الإمام أو أحد البلاد الداخلة في حدود حكمه ، ولكن إذا تضمن العهد بينه وبين بعض دول الكفار أن لا يقاتلوا أحدا من المسلمين غير الخاضعين لأحكامه ، فإنه ينتقض بقتالهم المخالف لنص العهد ، وحينئذ يجب نصر أولئك المسلمين على المعتدين عليهم لأجل دينهم ، وكذا لأجل دنياهم إن تضمن العهد ذلك ، كما يجب نصرهم على من لا عهد بين حكومة الإمام وحكومتهم ؛ لأنه حامي الإيمان وناشر دعوته . وقد أخذ أعظم دول الإفرنج هذا الحكم عن الإسلام ، ومن ألقاب ملك الإنكليز الرسمية " حامي الإيمان " ولكن المسلمين تركوه ثم طفقوا يتركون أصل الإسلام والإيمان .

                          والله بما تعملون بصير لا يخفى عليه شيء منه ، فعليكم أن تقفوا عند حدوده فيه لئلا تقعوا في عقاب المخالفة له ، وأن تراقبوه وتتذكروا اطلاعه على أعمالكم وتتوخوا فيها الحق والعدل والمصلحة وتتقوا الهوى الصاد عن ذلك . وبمثل هذا الإنذار الإلهي تمتاز الأحكام السياسية الإسلامية على الأحكام القانونية المدنية بما يجعل المسلمين أصدق في إقامة شريعتهم ، [ ص: 98 ] وأجدر بالوفاء بعهودهم ، وأبعد عن الخيانة فيها سرا وجهرا ، وفي هذا من المصلحة لخصومهم من الكفار ما هو ظاهر فكيف بأهل ذمتهم ؟ وإننا نرى أعظم دول المدنية العصرية تنقض عهودها جهرا عند الإمكان ، ولا سيما عهودها للضعفاء ، وتتخذها دخلا وخداعا مع الأقوياء ، وتنقضها بالتأويل لها إذا رأت أن هذا في منفعتها . وقد قال أعظم رجال سياستهم البرنس بسمارك معبرا عن حالهم : المعاهدات حجة القوي على الضعيف . ( وقال ) في الدولة البريطانية : إنها أبرع الدول في التفصي في المعاهدات بالتأويل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية