الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون هذا بيان لما سيكون من أمر هؤلاء المشركين بعد تلك العداوة للإسلام وأهله ، وهو لا يعدو أمرين فصلهما تعالى ، وبين حكم كل منهما في هاتين الآيتين ، قال : فإن تابوا عن شركهم وصدهم عن سبيل الله من آمن به بالفعل ، ومن يريد الإيمان أو يتوقع منه ، وما يلزم ذلك من نقض العهود وخفر الذمم وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة بدخولهم في جماعة المسلمين ، الذي لا يتحقق بعد الشهادتين إلا بإقامة هذين الركنين من أركان الإسلام ، كما تقدم تفصيله في تفسير الآية الخامسة فإخوانكم في الدين أي : فهم حينئذ إخوانكم في الدين لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، وبهذه الأخوة يهدم كل ما كان بينكم وبينهم من عداوة . وهو نص في أن أخوة الدين تثبت بهذين الركنين ، ولا تثبت بغيرهما من دونهما ، والثاني مقيد بشرطه وهو ملك النصاب مدة الحول ، والكلام في جملة المشركين ، وفيهم الغني والفقير ، وهل يتعارف الإخوان في الدين إلا بإقامة الصلوات في المساجد وسائر المعاهد ، وبأداء الصدقات للمواساة بينهم ، ولإقامة غيرها من المصالح ؟ وهذه الأخوة أول مزية دنيوية للإسلام ، فإن المشركين كانوا محرومين من هذه الأخوة العظيمة ، بعضهم حرب لبعض في كل وقت إلا ما يكون من عهد أو جوار قلما يفي به القوي للضعيف دائما ونفصل الآيات لقوم يعلمون أي : ونبين الآيات المفصلة للدلائل ، الفاصلة بين الإيمان والكفر ، وبين الحق والباطل ، والمفرقة بين الفضائل والرذائل ، لقوم يعلمون وجوه الحجج والبراهين ، فهم الذين يعقلونها دون الجاهلين من متبعي الظنون والمقلدين .

                          روى ابن جرير في تفسير الآية عن ابن عباس قال : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة . وروي عن ابن زيد قال : افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما .

                          [ ص: 170 ] وقرأ : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة : وقال رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه . وروي عن عبد الله ( أي ابن مسعود ) قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له . وروى غيره عنه أنه قال كما قال ابن زيد بعده : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه . يعني بهذا قوله : والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما .

                          وفي تفسير هذه الآية مباحث : ( المبحث الأول ) أن الشرط فيها كالشرط في الآية الخامسة ، وإنما اختلف الجواب لمناسبة السياق ، وردت تلك الآية تالية تلو الأمر بقتل المشركين فناسب أن يكون جواب الشرط فيها الأمر بتركه ، وهو قوله تعالى : فخلوا سبيلهم ( 5 ) ووردت هذه الآية تلو إثبات رسوخ المشركين في كفرهم وضلالهم وصدهم عن سبيل الله ، وكونه هو الباعث لهم على قتال المؤمنين ابتداء ثم على نقض عهودهم ، فناسب أن يذكر في جواب شرطها فإخوانكم في الدين وهذه أجلب لقلوبهم ، وأشد استمالة لهم إلى الإسلام كما قال بعض المفسرين .

                          ( المبحث الثاني ) استدل بعضهم بها على كفر كل من تارك الصلاة ، ومانع الزكاة ، ذلك بأنه تعالى اشترط فيها لتحقق أخوة الإيمان ، والدخول في جماعته ثلاثة أشياء : التوبة من الكفر ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فانتفاء أحد هذه الثلاثة يقتضي انتفاء ما جعلت شرطا له وهو الإسلام ، وتفصى بعضهم من هذا بادعاء أن العبارة إنما تدل على حصول الإسلام بحصول هذه الثلاثة فقط دون انتفائه بانتفائها فهذا يحتاج إلى دليل خارجي ، وأرجع ذلك إلى ما زعمه من أن التعليق بكلمة " إن " إنما يدل على استلزام المعلق للمعلق عليه حصولا لا انتفاء ، فهو لا يقتضي انعدامه بانعدامه ، لجواز أن يكون المعلق لازما أعم فيتحقق بدون ما جعل ملزوما له . وهذا من الجدليات اللفظية الباطلة ، فليس في المقام إلا مسألة الاحتجاج بمفهوم الشرط ، وهو من ضروريات اللغة كما بيناه في هذه المسألة نفسها من تفسير الآية الخامسة ، وما أوردوا على اطراده من بعض النصوص التي لا يظهر فيها القول بالمفهوم ، فمنه ما سببه ضعف الفهم ، ومنه ما له سبب خارج عن مدلول اللغة ، فمن ذلك قوله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ( 24 : 33 ) بناء على أن مفهومه عدم النهي عن إكراههن إن لم يردن التحصن - وهو غفلة ظاهرة عن كون الإكراه إنما يتحقق عند إرادة التحصن ، ولا يعقل عند عدمها وهو بذل العرض ، وبيع البضع ومنه قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ( 4 : 31 ) استشكل الأشاعرة القول بمفهومه على مذهبهم ، وما هو بمشكل إلا من حيث يكون حجة لخصومهم المعتزلة على عدم مغفرة الكبائر ، وما زال المتعصبون للمذاهب يجنون على اللغة وعلى نصوص [ ص: 171 ] التنزيل لإبطال حجج خصومهم ، على أن المعلق على اجتناب الكبائر هنا أخص من المغفرة وهو أمران : تكفير السيئات ، والمدخل الكريم . وأين هذا وذاك مما نحن فيه من اشتراط شروط للانتقال من أمر إلى ضده المساوي لنقيضه ، أي من الكفر إلى الإيمان ؟ هل يعقل أن يقال : إن الإيمان يحصل بحصول شروطه ، وإقامة أعظم أركانه ، ولا ينتفي بانتفائها ؟ ألا إنه لا يعقل في حال النظر إلى الحقيقة نفسها ، وهي ظاهرة لا حجاب عليها ، ولكنه وقع بالفعل ممن صرف بصره عنها وأراد معرفتها بالاصطلاحات الجدلية ، والتعصب للمذاهب الكلامية أو الفقهية .

                          والحق في أصل المسألة ما حققناه في شرط الآية الخامسة ، وإنما ذكرنا هذا هنا ؛ لأن الذي أورد التفصي المذكور بهذه القاعدة هو إمام الجدليين فخر الدين الرازي ، أورده مختصرا ، ونقله الآلوسي عازيا إياه إلى بعض جلة الأفاضل ، وفصله بأوسع مما قاله الرازي ، فأردنا ألا يغتر به من يغترون عادة بكل مباحث هؤلاء الأفاضل ، والذي دعا الرازي وغيره إلى التفصي من دلالة الآية على انتفاء أخوة الإسلام بانتفاء أداء الزكاة استشكاله إياه بالفقير الذي تجب عليه ، ولا تقع منه ، وبالغني قبل وجوبها عليه بمرور الحول ، وأجابوا عنه في حال عدم تسليم تلك القاعدة بأن من لم يكن أهلا لوجوب الزكاة عليه لا تجب عليه ، ويكتفى منه بأن يقر بحكمها ويلتزمه عند وجوبه . وقد بينا من قبل أن الكلام في هذا المقام إنما هو فيما يشترط على جماعة المشركين في خروجهم منها ودخولهم في جماعة المسلمين ، وهو الإذعان لشرائع الإسلام بالإجمال ، ولفريضتي الصلاة والزكاة بالتعيين والتفصيل ، وأما أفراد المشركين فإنما يطالبون بكل من فريضتي الصلاة والزكاة بالفعل عند تحقق فرضيتهما على كل منهم ، ومنهم من لا تفرض عليه الزكاة مطلقا ، ومنهم من تفرض عليه بعد حول أو أكثر ، ومثله من أسلم بعد طلوع الشمس لا تجب عليه الصلاة إلا بدخول وقت الظهر ، ويكفي في أخوة الإسلام من كل من الفريقين قبل افتراض الصلاة والزكاة عليهما التوبة من الكفر والإقرار بالشهادتين مع الإذعان لما يقتضيانه من عمل بدني ونفسي بالإجمال كما فصلناه في تفسير الآية الخامسة أيضا وما هو ببعيد .

                          ( المبحث الثالث ) وهو لغوي محض ، أن لفظ أخ أصله أخو ومثناه أخوان ، وفي لغة : أخان . ويجمع على إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما ، وكل منهما يستعمل في أخوة النسب القريب ، أي الأخوة من أحد الأبوين أو كليهما ، والنسب البعيد كالجنس والقبيلة ، وفي أخوة الرضاع ، وأخوة الدين ، وأخوة الصداقة ، وقد نطقت هذه الآية باستعمال لفظ الإخوان في أخوة الدين ومثلها في الموالي فإخوانكم في الدين وجاء في أخوة الكفر : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ( 59 : 11 ) إلخ .

                          [ ص: 172 ] وأما استعمال جمع إخوة في أخوة الدين ففيه قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة ( 49 : 10 ) وسائر استعماله في أخوة النسب .

                          ( المبحث الرابع ) هذه الأخوة الدينية مما يحسدنا عليها جميع أهل الملل ، فهي لا تزال أقوى فينا منها فيهم ترافدا وتعاونا ، وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية ، وأثرة المادية وغيرها ، على ما منيت به شعوبنا من الضعف واختلال النظام ، واختلاف الجنسيات والأحكام ، ولقد كانت في عصر السلف الصالح اشتراكية اختيارية أوسط أحوالها مساواة المسلم أخاه بنفسه ، وأعلاها إيثاره على نفسه وأهله وولده ، قال تعالى في أنصار رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعاملتهم للمهاجرين من أصحابه يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( 59 : 9 ) وأما المواساة بما دون المساواة فقد كانت عامة في خير القرون ، ثم صارت تضعف قرنا بعد قرن ، ولا يزال لها بقية صالحة بين أصحاب الأخلاق المحمودة ولله الحمد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية