الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 212 ] وصل في كمال حب الله ورسوله وطريق اكتسابه

                          من رحمة الله تعالى في دين الفطرة أنه لم يذم حب الأهل والأقارب والأزواج ، ولا حب المال والكسب والاتجار ، ولم ينه عنهما ، وإنما جعل من مقتضى الإيمان إيثار حب الله ورسوله على حب ما ذكر ، وكذلك الجهاد في سبيله إذا وجب ، كما كانت الحال بين المؤمنين والمشركين وتقدم شرحها في تفسير هذه السورة وغيرها ، وهذا منتهى التسامح في الدين دون تكليف بغض ما ذكر فكيف وقد أباح الإسلام معه بر المخالف في الدين ، والعدل والقسط في معاملته في سورة الممتحنة ( 60 : 8 ، 9 ) وتقدم الاستشهاد به في آخر تفسير الآية السابقة ، وخاطب المؤمنين في سورة آل عمران بقوله بعد النهي عن اتخاذ بطانة من الكفار الذين لا يألونهم خبالا إلخ : ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ( 3 : 119 ) وأباح لهم نكاح الكتابيات على ما فطر عليه القلوب من حب الزوجية وقوله: وجعل بينكم مودة ورحمة ( 30 : 21 ) .

                          ومن الأحاديث في الحب المشروح في الآية ما رواه الشيخان في صحيحيهما - وكذا الترمذي والنسائي - من حديث أنس مرفوعا ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار وما رواه الشيخان من حديث أنس أيضا لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين وما رواه البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال له عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي ، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الآن يا عمر " .

                          وقد حملوا هذه الأحاديث على الإيمان الكامل بناء على أن المراد حب الطبع الذي لا يملكه الإنسان ; إذ من المعلوم بالضرورة أن حب الإيمان والعبادة والإجلال شرط أو شطر من الإيمان بالله وبرسالته صلوات الله وسلامه عليه ، وأما صيرورته وجدانا من قبيل حب الطبع ، وغلبته على حب كل شيء حتى النفس ، فهو كمال لا يحصل إلا بعد الرسوخ في الإيمان ، وهو ليس ببعيد ، فكثير من العشاق للحسان يصلون إلى هذه الدرجة ، وأكثر هؤلاء الحسان غير أهل لعشر هذا الحب ، لولا أنه من أمراض النفس ، فأين منه حب من هو مصدر لكل جمال وكمال وحسن وإحسان ، يتجلى في كل ما عرف البشر من نظام الأكوان ، وهم لم يعرفوا منه إلا القليل ؟ ! .

                          [ ص: 213 ] والطريق إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر ، وتدبر القرآن مع التزام سائر أحكام الشرع ، وإنما الذكر ذكر القلب ، مع حسن النية وصحة القصد ، وتأمل سننه وآياته في الخلق ، بأن تذكر عند رؤية كل حسن وجمال وكمال في الكون أنه من الله عز وجل ، وأن تذكره عند سماع كل صوت من ناطق مفهوم ، وصامت معلوم ، كخرير المياه ، وهزيز الرياح ، وحفيف الأشجار ، وتغريد الأطيار . وكذا نغمات الأوتار . وتتذكر أنها تسبح بحمد الله ، ومن صنع الله الذي أتقن كل شيء ، كما قال تعالى في تسبيح نبيه داود عليه السلام ، في زبوره : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب ( 38 : 18 ، 19 ) .

                          والمحفوظ عند أهل الكتاب في خاتمة الزبور وهو المزمور المائة والخمسون : " سبحوا الله في قدسه ، سبحوه في فلك قوته ، سبحوه على قواته ، سبحوه بصوت الصور ، سبحوه برباب وعود ، سبحوه بدف ورقص ، سبحوه بأوتار ومزمار سبحوه بصنوج التصويت ، سبحوه بصنوج الهتاف ، كل نسمة فلتسبح الرب هللوا " اهـ .

                          وفي المزامير كثير من هذه التسابيح في المعازف ، وكان من شريعة موسى عليه السلام ، ولكنه ليس من ديننا ، وشعائر شريعتنا ، والتحقيق أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ، ولم يأذن الله تعالى لنا أن نحدث شيئا في دينه بآرائنا وأهوائنا ، وهو قد أكمل لنا الدين ، وبلغنا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن كل بدعة ضلالة وقال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق عليه ، وقد ابتدع بعض الصوفية إدخال المعازف والرقص في ذكر الله بما يجتمعون له فيجعلونه من قبيل الشعائر ، وإنما الذي نطق به كتاب الله ، إثبات تسبيح كل شيء لله ، قال تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( 17 : 44 ) .

                          فالذي ينبغي لنا أن نستفيده من ذلك أن نذكر في قلوبنا عند رؤية كل شيء من صنع الله ، وسماع كل صوت من مخلوقات الله ، أنه يسبح بحمد الله بدلالته على تنزيهه عما لا يليق به ، وعلى قدرته وحكمته ومشيئته ورحمته ، وأن لها تسبيحا آخر غيبيا لا نفقهه بكسبنا; لأننا لا ندرك حياتها ، وقد يكون إدراكه ثمرة روحية لمن زكت أنفسهم بذكر الله وتسبيحه ، وخرجوا به من ظلمات الأهواء والشهوات إلى نور قدسه ، ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ( 33 : 41 - 43 ) .

                          [ ص: 214 ] ومن أقام فرائض الله تعالى كما أمره ، وترك معاصيه كما نهى ، وداوم التقرب إليه بالنوافل كما ندب ، وأكثر من ذكره كما أحب ، فإنه يصل بفضل الله إلى المقام الذي أشار إليه الحديث القدسي : " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها " الحديث ، تفرد به البخاري وفي سنده كمتنه غرابة .

                          ومن المعلوم بالبداهة أن ذات الله تعالى لا تكون صفة أو عضوا لغيره - ولا ذات المخلوق أيضا - وإنما المعنى المتبادر من الحديث أنه تعالى يكون هو الشاغل الأعظم لسمع من أحبه إذا سمع ، وبصره إذا أبصر إلخ . ولهذا مراتب : ( أولها ) أنه لا يوجه سمعه إلا لما يعلم أنه يحبه ويرضيه . ( ثانيها ) أنه يذكره تعالى بقلبه ولسانه عند كل إدراك وكل عمل فيزداد به معرفة وعلما ، وهو ما كان موضوع كلامنا في السماع آنفا . ( ثالثها ) أنه يكون موضوع عناية الله وتصرفه فيما يسمعه على حد : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ( 8 : 23 ) أي أنه تعالى يخلق له عند سماع ما يسمع ، ورؤية ما يبصر من العلم بصفاته وسننه في خلقه ما لم يكن يعلمه ، فيطلبه ويقصد إليه فيكون من كسبه كما هو شأنه في المرتبتين الأوليين الكسبيتين . ( رابعهما ) ما يسمونه الفناء في الله ، وهو أن يغيب العبد عن شهود نفسه والشعور بإرادته وحسه ، ويبقى له الشعور بأنه مظهر من مظاهر بعض صفات ربه ، وموضع تجلي ما شاء من أسمائه وصفاته ، حتى يكون عز وجل هو الغالب على أمره ، كما قال تعالى في يوسف عليه السلام : والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 12 : 21 ) وهذا الفناء والشعور لا يحصل لمن صار من أهله ، بقطع المراحل ، والتنقل في المراتب التي من قبله ، إلا اللمحة بعد اللمحة ، والفينة بعد الفينة ، وهذه المرتبة هي وحدة الشهود ، وما يذكرونه من مرتبة وراء هذه تسمى وحدة الوجود ، وهي عبارة عن كون وجود الخلق عين وجود الحق ، وكون ذات العبد هي ذات الرب أو لا عبد ولا رب ، وما ثم إلا شيء واحد له مظاهر وأطوار ، كظهور الماء في صور الثلج الجامد والسائل والبخار ، وقد يحتجب بالانحلال إلى عنصرية ( الأكسجين والأدرجين ) عن الأبصار ، فهذه فلسفة مادية باطلة ، اخترعتها مخيلات صوفية البوذية والبراهمة وهي كفر بالله ، وخروج من ملل جميع رسل الله ، وقد فتن بها بعض صوفية المسلمين . ولهم فيها من الشعريات المنظومة والمنثورة ، وتأويل بعض الآيات والأحاديث المأثورة ، ما أضل كثيرا من الناس بهم وبها كما ضل آخرون بالفلسفة العقلية والطبيعية والإعجاب بأهلها ، وقد كشف شبهات الفريقين ، وفندها بالأدلة العقلية والنقلية ، شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين تلميذه المحقق ابن القيم حقائق التصوف [ ص: 215 ] الموافقة للكتاب والسنة في كتابه ( مدارج السالكين ) الذي شرح به كتاب ( منازل السائرين ) تأليف شيخ الإسلام في الحديث والتصوف أبي إسماعيل الهروي قدس الله أرواحهم أجمعين .

                          وإننا نتم فائدة هذا البحث بالتنبيه إلى أكبر الأسباب; لزيغ بعض الصوفية عن صراط الكتاب والسنة النبوية ، مع اعتراف جميع أئمة شيوخهم بأنهما أصل طريقتهم ، والبحر الذي تستخرج منه جميع درر حقائقهم ، وهو أن من اشتغل بكثرة ذكر الله التي هي أقرب الطرق إلى معرفة الله وحبه يحصل له في أثناء ذلك من كشف أسرار الكون والمشاهدات والأذواق الروحية ما يفتنه بنفسه وبخواطره وذوقه ، فيتوهم أن كل ما يشعر به ويتخيله حقيقة أثبتها الكشف ، كما يفتنه بنفسه المشتغلون بالفلسفة النظرية بما يظهر لهم من النظريات في هذه الموجودات فيظنون أنها حقائق أثبتها العقل ، وكل من الفريقين المفتونين يظن أن ما عنده هو الحقيقة ، وإن خالف نصوص الشريعة ، فإما أن يتركها فيكون من الكافرين ، وإما أن يتأولها فيكون من المبتدعين ، والحق أن كلا منهما يخطئ ويصيب ، وأن كلامهم يناقض بعضه بعضا ، حتى ما يسمونه كشفا ، أو تلقيا من ملك الإلهام ، أو من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليقظة أو المنام . وقد أبطلت العلوم العصرية أصول فلسفتهم المادية والروحية .

                          وللصوفية الشرعيين في حب الله منازل عالية ومقامات راسخة . ومعارف واسعة في حب كل شيء بحب الله مع إعطاء الشرع حقه فيما يبغض الله : وما يحب الله . قالت رابعة العدوية رحمها الله :


                          أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاكا     فأما الذي هو حب الهوى
                          فشيء شغلت به عن سواكا     وأما الذي أنت أهل له
                          فكشفك لي الحجب حتى أراكا

                          والذي نفهمه من هذا الشعر أن الحب الأول هو حب العبودية ، وهي حيرة شاغلة عن كل ما عداها . والثاني حب المعرفة وغايتها رفع الحجب الكثيرة المانعة من كمالها إلى أن تكمل بكرامة الرؤية في الآخرة ، وقد بينا هذا المعنى وهذه الحجب في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف ، وقد روي عن الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه كان كلما ولد له ولد يكبر أربع تكبيرات كتكبيرات صلاة الجنازة ويقول ما معناه : إنه يعده كالميت حتى لا ينازع حبه حب الله تعالى في قلبه ، وإذا أحببت أن تعرف الصحيح الشرعي من هذا الحب فعليك بمدارج السالكين للمحقق ابن القيم رحمه الله تعالى .

                          [ ص: 216 ] هذا - وإن لهم من المعاني الرقيقة في صفات المثل الأعلى للكمال البشري في هذه الخليقة ، والمدد الأكمل في الشريعة الشاملة للطريقة والحقيقة ، خاتم النبوة ، والتشريع السماوي ، ومشرق الأنوار الإلهية للعرفان الإلهي ، الرحمة المرسلة للعالمين ، محمد رسول الله خاتم النبيين ، ما يجعل حبه هو المعراج الأعلى إلى حب العبد لله ، واتباعه هو الوسيلة الوحيدة إلى نيل مقام الحب من الله ، بنص : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( 3 : 31 ) مع التفرقة التامة بين حقيقة الربوبية والألوهية ، وحقيقة الرسالة التي هي أعلى مقامات العبودية ، فلا يسألون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لا يطلب إلا من الله ; لأنهم يعلمون أنه لا ند لله بل لا يسألون إلا الله ، كما نورد في مناقب الصديق الأكبر أنه لم يسأله صلوات الله وسلامه عليه شيئا لنفسه ولا الدعاء .

                          وإذا صح للإنسان حب الله وحب رسوله وكمل فيهما ، صارت سائر أنواع الحب الحيواني والنفسي والمنادى تابعة وممدة لهما ، حتى تغرق أو تفنى فيهما ، فهو يعطي كل ذي حق حقه من الحب الشرعي الفطري ، ويسهل عليه بذل ماله ونفسه في سبيل الله ، توسلا به إلى لقاء الله ، وكذلك كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي عنهم وتأمل ما كان من تحريض الخنساء ـ رضي الله عنها ـ لأولادها على الجهاد بشعرها حتى قتلوا واحدا بعد واحد ، فقالت وهي التي يضرب المثل بحزنها على أخويها في الجاهلية : الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم . وما فقد المسلمون السيادة في الدنيا ، والاستعداد لسعادة الآخرة إلا بالحب المادي لأنفسهم ولشهواتهم ، وإيثاره على حب الله ورسوله الذي هو مناط سعادتهم وأموالهم في سبيل أعدائهم ، ولا نجاة لهم إلا بتربية أنفسهم على توطينها على الموت في سبيل الله ، فمن لم يتح له الموت في جهاد العدو فعليه بطلب الموت الإرادي في جهاد النفس ، فلا حياة إلا بعد موت ، والموت آية الحب الصادق .


                          فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به     شهيدا وإلا فالغرام له أهل

                          وله من العبرة في الآية التالية ما يجعل هذه المعاني المعقولة مشاهدة ماثلة ، والدلائل الشرعية وقائع حسية ، في آثار النبي المختار ، وإيثار الأنصار ، والفرق بين المؤمنين الراسخين منهم ومن المهاجرين ، وبين المؤلفة قلوبهم والمنافقين ، فيما كان من خذلان وهزيمة ، ومن نصر وغنيمة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية