الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا ، أي قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم ، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم . كما فعل الروم ، فكان سببا لغزوة تبوك ، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما . فالقيد الأول لهم ، وهو أن تكون صادرة " عن يد " أي قدرة وسعة ، فلا يظلمون ويرهقون . والثاني لكم ، وهو الصغار المراد به خضد شوكتهم ، والخضوع لسيادتكم وحكمكم ; وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم التي يرونكم أقرب بها إلى هداية أنبيائهم منهم . فإن أسلموا عم الهدى والعدل والاتحاد ، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل ، ولم يكونوا حائلا دونهما في دار الإسلام . والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينيا أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية ، ومتى أعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم ، والدفاع عنهم وحريتهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية ، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين ، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين ، ويسمون أهل الذمة ; لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأما الذين يعقد الصلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق يعترف به كل منا ومنهم باستقلال الآخر [ ص: 256 ] فيسمون بأهل العهد والمعاهدين ، وتقدم بيان ذلك في تفسير سورة الأنفال ، ولا بأس بأن نبسط القول من مسألة الجزية لتقصير المفسرين في بيانها فنقول : ( فصل في حقيقة الجزية والمراد منها )

                          الجزية ضرب من الخروج يضرب على الأشخاص لا على الأرض ، جمعها جزى كسدرة وسدر ، واليد السعة والملك أو القدرة والتمكن ، والصغار ( بالفتح ) والصغر ( كعنب ) وهو ضد الكبر ، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية ، والمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته الذي تصغر به أنفسهم لديهم بفقدهم الملك ، وعجزهم عن مقاومة الحكم . قال الراغب : الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية ، وقال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم : وسمعت عددا من أهل العلم يقولون : الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام اهـ . ومن المفسرين من قال في الآية أقوالا يأباها عدل الإسلام ورحمته .

                          وظاهر كلام اللغويين المفسرين أن لفظ الجزية عربي محض من مادة الجزاء . وهل هي جزاء حقن الدم ، أو جزاء الحماية لهم والدفاع عنهم من غير تكليفهم التجند للقتال معنا ، أو جزاء إعطاء الذمي حقوق المسلمين ومساواتهم بأنفسهم في حرية النفس والمال والعرض والدين ؟ وجوه أضعفها أولها وسيأتي بسط القول في ثانيها .

                          قال صاحب اللسان : والجزية خراج الأرض وجزية الذمي منه . الجوهري والجزية ما يؤخذ من أهل الذمة والجمع الجزى مثل لحية ولحى ، وقد تكرر في الحديث ذكر الجزية في غير موضع ، وهي عبارة عن المال الذي يعقد الكتابي عليه الذمة ، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله . ومنه الحديث ليس على مسلم جزية أراد أن الذمي إذا أسلم وقد مر بعض الحول لم يطالب من الجزية بحصة ما مضى من السنة . وقيل : أراد أن الذمي إذا أسلم وكان في يده أرض صولح عليها خراج توضع عن رقبته الجزية ، وعن أرضه الخراج إلخ .

                          وقد حقق شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني الهندي ( رحمه الله ) في رسالة له نشرت في المجلد الأول من المنار ، أن لفظ الجزية معرب وأصله فارسي ( كزيت ) وأن معناها الخراج الذي يستعان به على الحرب ، وأورد على الأول بعض الشواهد من الشعر الفارسي ، ثم ذكر أن في المسألة احتمالين . ( أحدهما ) أن هذا اللفظ وجد في اللغتين ، فالأولى أن يقال إنه مما اتفقتا فيه ، وتوافق اللغات في الأمور التي توجد معانيها عند الأمم الناطقة بها شائع معروف ( والثاني ) أن الكلمة أصيلة في الفارسية دخيلة في العربية كأمثالها مما أخذه العرب من مجاوريهم [ ص: 257 ] من الفرس وهضمتها لغتهم ، واستدل على ذلك بأمور ، منها ما لا يدل على الدعوى دلالة صحيحة كثبوت أخذ العرب عن العجم بعض الألفاظ كالكوز والإبريق والطست ، وكزعمه أن العرب لم يتفق لهم وضع ألفاظ للمعاني الخاصة بالمدنية والعمران كالوزير والصاحب والعامل والتوقيع ، لما كانوا عليه من البؤس وعدم الاستيلاء والاستعباد لغيرهم من الأمم ، والأول : حق غير دال ، والثاني : باطل في نفسه فعدم دلالته على ذكر أولى . والحق أن كل أمة تجاور أمة وتخالطها تأخذ شيئا من لغتها فتعتاده فيدخل في لغتها وإن كان عندها مرادف له ، وهكذا ما وقع بين العرب والعجم ، ومعرفة السابق لبعض الألفاظ المشتبهة من الأمتين فيه عسر شديد ، وقد سبق للعرب مدنيات قديمة في جزيرتهم أيضا من خصائص الملكية ، كفوا مؤنة وضع لفظ بإزائها " محتمل غير حقيق . وأقوى منه ما بعده ، وهو مفيد سواء كان اللفظ أصيلا في العربية أو معبرا دخيلا ، لأنه بيان للمعنى المراد من اللفظ بدلالة الاستعمال فننقله بنصه وهو : ( ومنها ) أن الحيرة - وكانت منازل آل نعمان - كانت تدين للعجم وتؤدي إليهم الإتاوة والخراج ، ولما كان كسرى أنوشروان هو الذي سن الجزية أولا كما نبينه فيما سيأتي ، يغلب على الظن أن العرب أول ما عرفوا الجزية في ذلك العهد وتعاوروا اللغة العجمية بعينها ، ومن مساعدة الجد أن اللفظ كانت زنته زنة العربي فلم يحتاجوا في تعريبه إلى كبير مؤنة بعد ما أبدل كافها جيما صارت كأنها عربي الأصل والنجار . ومع هذه كلها فإن هذا البحث لا يهمنا ولا يتعلق به كبير غرض ، فإن إثبات ما نحن بصدده لا يتوقف على الكشف عن حقيقة اللفظ ، فنحن في غنى عن إطالة الكلام وإسهابه في أمثال هذه الأبحاث .

                          ( الثاني ) أول من سن الجزية فيما علمنا كسرى أنوشروان ، وهو الذي رتب أصولها وجعلها طبقات . قال الإمام العلامة المحدث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري يذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجزية : وألزموا الناس ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والمرازبة والكتاب ومن كان في خدمة الملك ، وصيروها على طبقات : اثني عشر درهما ، وثمانية ، وستة ، وأربعة ، بقدر إكثار الرجل أو إقلاله ، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين وفوق الخمسين .

                          ثم قال . " وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس " وقال المؤرخ الشهير أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري - وهو أقدم زمانا من الطبري - في كتابه الأخبار الطوال في ذكر كسرى أنوشروان : " ووظف الجزية على أربع طبقات ، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان في خدمة الملك ، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين " .

                          [ ص: 258 ] ومن وقف على هذه النصوص يظهر له أن الجزية مأثورة من آل كسرى ، وأن الشريعة الإسلامية ليست بأول واضع لها ، وأن كسرى رفع الجزية عن الجند والمقاتلة وأن عمر بن الخطاب اقتدى بهذه الوضائع .

                          أما المعنى الذي توخاه كسرى في هذا الاستثناء فبينه العلامة ابن الأثير في كتابه الكامل ناقلا عن كلام كسرى فقال : " ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة ، وأهل العمارة أجراء للمقاتلة ، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان ; لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم عمن وراءهم ، فحق على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم ، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم ، ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة ، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم ، وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم ، ولم أجحف بواحد من الجانبين " .

                          وحاصله أنه يجب على كل فرد من أفراد الملة المدافعة عن نفسه وماله ، فمن كان يقوم بهذه العبء بنفسه فليس عليه شيء - وهؤلاء أهل الجند والمقاتلة ، وأما من كان يشغله أمر العمارة وتدبير الحرث عن المخاطرة بالنفس ، فيحق عليه أن يؤدي شيئا معلوما في كل سنة يصرف في وجوه حمايته والدفاع عنه . وهذا هو المعني بالجزية ، فإنها تؤخذ من أهل العمارة وتعطى للمقاتلة والجند الذين نصبوا أنفسهم لحماية البلاد واستتباب وسائل الأمن والسلامة لكافة العباد .

                          ( الثالث ) أن الشريعة الإسلامية ، وإن لم يكن شأنها شأن الملكية والسلطنة بل الغاية التي توخاها الشرع ليست إلا تكميل النفس وتطهير الأخلاق ، والحث على الخير ، والردع عن الإثم ، ولكن لما كانت هذه الأمور يتوقف حصولها على نوع من السياسة الملكية لم تكن الشريعة لتنقل عنها كليا ، فاختارت جملة من الوضائع تكون مع سذاجتها كافلة لانتظام أمر الناس وإصلاح ارتفاقاتهم .

                          ومن ذلك الجهاد والقتال ، المقصود بهما الذب عن حمى الإسلام والدفع عن بيضة الملك ، وإزاحة الشر وبسط الأمن ، واستتباب الراحة ، فجعل الجهاد فرضا محتوما على كل أحد ممن دخل في الإسلام ، إما كفاية وهذه إذا لم يكن النفير عاما ، وإما عينا إذا هاجم العدو البلد وعم النفير ، قال في الهداية : الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين ، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه ، إلا أن يكون النفير عاما فحينئذ يصير من فروض الأعيان .

                          فالمسلم لا يخلو من إحدى الخطتين . إما مرتزق ، وهو من دخل في العسكر ونصب [ ص: 259 ] للقتال نفسه ، أو متطوع ، وهو من لم يأخذ نصيبه من الجهاد ، ولكن إذا جاءت الطامة ووقع النفير لا يمكنه الاعتزال عن القتال والتنحي عنه ، بل عليه أن يدخل فيما دخل المسلمون طوعا أو كرها .

                          وإذا كان من المسلم الثابت أن المرتزق والمتطوع سيان في الحقوق الكلية التي تمنح للعسكر ، كان من الحق الواضح أن يعفى المسلمون كلهم من ضريبة الجزية ، أما أهل الذمة فما كان يحق للإسلام أن يجبرهم على مباشرتهم القتال في حال من الأحوال ، بل الأمر بيدهم ، رضوا بالقتال عن أنفسهم وأموالهم عفوا عن الجزية ، وإن أبوا أن يخاطروا بالنفس فلا أقل من أن يسامحوا بشيء من المال وهي الجزية ، ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان ، أي إثبات أن الجزية ما كان تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم ، وأن الذميين لو دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية ، فإن صدق ظني فاصغ إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب وتحسم مادة القيل والقال .

                          ( فمنها ) ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها وهذا نصه : " هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه ، إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة وما منعناكم ( أي حميناكم ) فلنا الجزية وإلا فلا ؟ كتب سنة اثنتي عشرة في صفر " .

                          ( ومنها ) ما كتب نواب العراق لأهل الذمة وهاك نصه : " براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها خالد والمسلمون ، لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية وكنتم . أمانكم أمان ، وصلحكم صلح ، ونحن لكم على الوفاء " .

                          ( ومنها ) ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه : " إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالدا على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم " .

                          ( ومنها ) المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس حينما وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام ، وكان هذا في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب ، وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد : " وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم " .

                          ( ومنها ) المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس ، وحذيفة هو الذي أرسله سعد بن أبي وقاص وافدا على رستم في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب ، وكان في جملة كلامه : " أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك " فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها ، كيف قارنوا بها بين الجزية والمنعة وكيف صرح خالد في [ ص: 260 ] كتابه بأنا لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم ، وإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها .

                          وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجل الصحابة ، فكان سبيلها سبيل المسائل المجمع عليها . قال الإمام الشعبي ، وهو أحد الأئمة الكبار : أخذ " أي سواد العراق " عنوة وكذلك كل أرض إلا الحصون ، فجلا أهلها فدعوا إلى الصلح والذمة فأجابوا وتراجعوا فصاروا ذمة وعليهم الجزاء ولهم المنعة ، وذلك هو السنة كذلك منع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدومة .

                          ولا تظنن أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به مجرد تطيب نفوس أهل الذمة ، وإسكان غيظهم ولم يقع به العمل قط ، فإن من أمعن النظر في سير الصحابة ، واطلع على مجاري أحوالهم ، عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدا ، ولا ذكروا شرطا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها ، وكذلك فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها - فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن مكحول أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم ، وحسن السيرة فيهم ، صاروا أشداء على عدو المسلمين وعيونا للمسلمين على أعدائهم ، فبعث أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله ، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم فأخبروه بذلك ، فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبي عبيدة يخبره بذلك ، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين ، فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبى منهم من الجزية والخراج ، وكتب إليهم أن يقولوا لهم : إنما رددنا عليكم أموالكم ; لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك ، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط ، وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم . فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا : " ردكم الله علينا ونصركم عليهم ، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئا " .

                          وقال العلامة البلاذري في كتابه فتوح البلدان : حدثني أبو جعفر الدمشقي قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال : بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج قالوا : " قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم " فقال أهل حمص : " لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم . ونهض اليهود فقالوا : والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص [ ص: 261 ] إلا أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود ، وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه ، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد " .

                          وقال العلامة الأزدي في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين ، ومسير أبي عبيدة من حمص : " فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال : اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم ، فإنه لا ينبغي لنا إذ لا نمنعهم - أن نأخذ منهم شيئا ، وقل لهم : نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح ، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه ، وإنما رددنا عليكم أموالكم ; لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم " فلما أصبح أمر الناس أن يرتحلوا إلى دمشق ، ودعا حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال ، فأخذ يرده عليهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة ، وأخذ أهل البلد يقولون : " ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا " وقال أيضا يذكر دخول أبي عبيدة دمشق : " فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين ، وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين كانوا أمنوا وصالحوا ، فرد عليهم ما كان أخذ منهم ، وقال لهم المسلمون : نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم ونحن معيدون لكم أمانا " .

                          أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب عن حريم الملك لا يطالبون بالجزية أصلا ، فعمدتنا في ذلك أيضا صنيع الصحابة ، وطريق عملهم ، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع وأحقهم بإدراك سر الشريعة . والروايات في ذلك وإن كانت جمة نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن كثير .

                          ( فمنها ) كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان وهاك نصه بعينه " هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان ، إن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه ، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم ، ولا يغير شيئا من ذلك ، شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس . وكتب في سنة 108 هـ ( طبري ص2658 ) .

                          ( ومنها ) الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه : هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها [ ص: 262 ] وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم ، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة ، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك " اهـ ( طبري صحيفة‌ 2262 ) .

                          ( ومنها ) العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب ، وبين شهر براز كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه وهاك نصه :

                          " هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان ، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينقضوا ، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم والتناء ومن حولهم ، فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة ، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا على أن يوضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك ، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء ، فإن حشروا وضع ذلك عنهم . شهد عبد الرحمن بن ربيعة ، وسليمان بن ربيعة ، وبكير بن عبد الله . وكتب مرضي بن مقرن وشهد " اهـ . ( طبري 2665 و 2666 ) .

                          ( ومنها ) ما كان من أمر الجراجمة ، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة من تفاصيل أحوالهم فقال : حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام ، عند معدن الزاج ، فيما بين بيامن وبوقا ، يقال لها : الجرجومة ، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام ، وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها ، فلما قدم أبو عبيدة أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم ، إذ خافوا على أنفسهم ، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم ، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية ، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلم الفهري ، فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها ، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح ، فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل اللكام ، وألا يؤخذوا بالجزية " ثم إن الجراجمة مع أنهم لم يوفوا ونقضوا العهد غير مرة لم يؤخذوا بالجزية قط ، حتى إن بعض العمال في عهد الواثق بالله العباسي ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إلى الواثق فأمر بإسقاطها عنهم اهـ .

                          وقد اختصر النعماني رحمه الله خبر الجراجمة بقوله : ثم إن الجراجمة إلخ ، وفي سائر خبرهم في البلاذري من غدرهم ونقضهم للعهد ، ومظاهرتهم للعدو وحسن معاملة الأمويين والعباسيين لهم ولغيرهم ، ما يفتخر به التاريخ الإسلامي العربي بالعدل والفضل . والشاهد هنا وضع الجزية عنهم بعد تكرار غدرهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية