الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إن في بعض كتب الصوفية كثيرا من المعارف والفوائد والمواعظ المؤثرة . ولكن أكثرها قد أفسد في دين هذه الأمة ما لم تبلغ إلى مثله شبهات الفلاسفة وآراء مبتدعة المتكلمين ; لأن هذين النوعين لا ينظر فيهما إلا بعض المشتغلين بالعلم العقلي ، وأما كتب الصوفية فينظر فيها جميع طبقات الناس وإن كانت أدق عبارة ، وأخفى إشارة من كتب الفلاسفة . ولا شك أن خير صوفية هذه الأمة السابقون ، الذين كانوا لا يتصوفون إلا بعد تحصيل علم الكتاب والسنة والفقه والاعتصام بالعمل على طريقة السلف كالإمام الجنيد وطبقته ، ثم ظهر فيهم الغلاة ومن يسمون صوفية الحقائق ، فابتدعوا ما أنكره عليهم الأئمة حتى قال الإمام الشافعي : من تصوف أول النهار لا يأتي آخره إلا وهو مجنون .

                          وأنت ترى أن الحارث المحاسبي من أجل علماء الصوفية ، وقد روى عنه الجنيد وكان من التمسك بالسنة بحيث لم يأخذ مما خلفه والده من المال الكثير دانقا واحدا على شدة فقره ، وعلل ذلك بأنه لا توارث مع اختلاف الدين ، وما كان والده إلا واقفيا ، أي لا يقول : إن القرآن غير مخلوق ، كما أنه لا يقول : هو مخلوق ، وقد ألف الحارث في أصول الديانات [ ص: 330 ] والزهد على طريق الصوفية فسئل الإمام أبو زرعة عنه وعن كتبه فقال للسائل : إياك وهذه الكتب ، بدع وضلالات ، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب ، قيل له : في هذه الكتب عبرة . فقال : من لم يكن له من كتاب الله عبرة فليس له في هذه عبرة - بلغكم أن مالكا أو الثوري أو الأوزاعي أو الأئمة صنفوا كتبا في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء ؟ هؤلاء قوم قد خالفوا أهل العلم ، يأتوننا مرة بالمحاسبي ومرة بعبد الرحيم الدبيلي ، ومرة بحاتم الأصم - ثم قال - ما أسرع الناس إلى البدع . وروى الخطيب بسند صحيح أن الإمام أحمد سمع كلام المحاسبي فقال لبعض أصحابه : ما سمعت في الحقائق مثل كلام هذا الرجل ، ولا أرى لك صحبتهم انتهى . من تهذيب التهذيبللحافظ ابن حجر ، وتعقبه بقوله ( قلت ) إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم ، فإنه مقام ضيق لا يسلكه كل أحد ، ويخاف على من يسلكه ألا يوفيه حقه اهـ .

                          فإذا صح هذا التعليل الذي قاله الحافظ في بعض أصحاب الإمام أحمد من خيار علماء السنة ، أفلا يكون غيرهم كدجاجلة هذا الزمان وعوامه أولى بألا ينظروا في كتب من لا يعدون من طبقة الحارث المحاسبي في العلم والعمل ، بحيث إن إمام السنة الأعظم في عصره ( أحمد بن حنبل ) لم ينكر شيئا مما سمع من كلامه بمخالفته للكتاب والسنة ، وإنما أنكره هو وأبو زرعة ; لأنه شيء جديد مبتدع في أمر الدين ، يشغل الناظر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ونهى عن صحبتهم لذلك أو لضيق مسلكهم ، وكونه لا يفهمه ويستفيد منه إلا من هو مثلهم كما علله الحافظ .

                          فما القول بعد هذا بكتب من جاء بعد هؤلاء من أصحاب القول بوحدة الوجود وغير ذلك من البدع المصادمة للنصوص ، كمحيي الدين بن عربي الذي يقول في خطبة فتوحاته :


                          الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف     إن قلت عبد فذاك ميت
                          أو قلت رب أنى يكلف

                          وغير هذا مما ينقض أساس التكليف ويصرح بأن الخالق والمخلوق واحد في الحقيقة ، وإنما الاختلاف في الصورة ، ومن شعره في ديوانه :


                          وما الكلب والخنزير إلا إلهنا

                          فهل يجوز لمسلم أن يجعل كلامه وكلام أمثاله حجة ويتخذه قدوة في عقيدته وعبادته ويدعو العامة إلى ذلك ؟ ونحن نرى المفتونين به من المتصوفة والمتفقهين يقولون : إنه لا يجوز النظر في أمثال هذه الكتب إلا لأهلها من العارفين برموز الصوفية وإشاراتهم الخفية مع العلم بالكتاب والسنة ، وقد ذكر الشعراني ، وهو أشهر داعية في عصره إلى خرافات الصوفية أنه سأل شيخه في التصوف عليا الخواص : لماذا يتأول العلماء ما يشكل ظاهره من نصوص [ ص: 331 ] الكتاب والسنة دون المشكل من كلام العارفين ؟ فأجابه بأن سبب ذلك القطع بعصمة القرآن ، وما صح عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمر الدين ، وعدم عصمة هؤلاء الشيوخ من الخطأ انتهى بالمعنى من كتابه الدرر والجواهر ، وهو حق .

                          وإنني أضرب لك مثلا للغرور بكتب هؤلاء الصوفية عن الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى ، نقل عنه الشعراني أنه قال : عملت كتابا في المعرفة ، وأعجبت به فبينما أنا ذات يوم أنظر فيه مستحسنا له إذ دخل علي شباب عليه ثياب رثة ، فسلم علي وقال : يا أبا عبد الله المعرفة حق للحق على الخلق أو حق للخلق على الحق ؟ فقلت : أحق على الخلق للحق ، فقال : هو أولى أن يكشفها لمستحقها ، فقلت : بل حق للخلق على الحق ، فقال هو أعدل من أن يظلمهم . ثم سلم علي وخرج . قال الحارث : فأخذت الكتاب وحرقته ، وقلت : لا عدت أتكلم في المعرفة بعد ذلك اهـ .

                          ( أقول ) يعني بالمعرفة هنا المعرفة المصطلح عليها عند الصوفية ، وإنما رجع عنها الحارث لاقتناعه بقول الشاب وتذكره أنها لو كانت مشروعة مرضية لله تعالى لبينها في كتابه فإنه قال : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( 16 : 89 ) ويروى عن ذي النون الصوفي الشهير أنه قال : ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا ؟ يعني أن وصفها لا يجوز إلا لأهلها العارفين ؛ ولهذا اتفق العلماء على أن من خاض من كلام صوفية الحقائق غير عالم برموزهم ضل وربما كفر ، وأنه لا يجوز سلوك طريقتهم إلا على يد شيخ عارف من الواصلين ، والعلماء العاملين . وقد كان الشيخ محمد أبو المحاسن القاوقجي من كبار العباد المشتغلين بالعلم والحديث ، وقد رويت عنه الأحاديث المسلسلة وغيرها ، وكان من شيوخ طريقة الشاذلي ، فقلت له يوما : إنني لا أحب أن أكون من أهل الطريق المقلدين ، الذين يجتمعون على قراءة حزب البر وهذه الأذكار الاجتماعية في المساجد وغيرها ، وإنما أريد السلوك الصحيح بالرياضة والتعبد السري كالمتقدمين ، فهل لك أن تتولى ذلك معي ؟ قال يا بني إنني لست أهلا لذلك فلا أغشك وأغش نفسي أو كما قال :

                          ومن كان من أهل العلم والفهم ، وأحب أن يستفيد من كلام خيار الصوفية في الحقائق مع التزام السنة وسيرة السلف في العبادة فعليه بكتاب ( مدارج السالكين ) للمحقق ابن القيم شرح ( منازل السائرين ) لشيخ الإسلام الهروي الأنصاري فإن فيه خلاصة معارف الصوفية التي لا تخالف الكتاب والسنة مع الرد على ما خالفهما ، وأما كتبهم في الأخلاق والآداب الدينية فيغني عنها كلها ( كتاب الآداب الشرعية ، والمنح المرعية ) لابن مفلح الفقيه الحنبلي ، فإنه مستمد من نصوص الكتاب والسنة ، وكلام أئمة الحديث والفقه المتفق على جلالتهم من جميع المسلمين فهذا ما ننصح به لجمهور المسلمين الذين يطلبون العلم الصحيح للعمل . وثم كتب كثيرة لعلماء [ ص: 332 ] الصوفية مفيدة في فلسفة الأخلاق وعلم النفس وخواص الأرواح ، والاستفادة الصحيحة منها خاصة بأهل البصيرة من العلماء .

                          ومن خيار الصوفية الوعاظ من المتقدمين منصور بن عمار ، وقد ذكر ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية أن الإمام أحمد نهى عن كلامه والاستماع للقاص به ، وأن القاضي أبا الحسين قال : إنما رأى إمامنا أحمد الناس لهجين بكلامه ، وقد اشتهروا به حتى رووه وفصلوه مجالس يحفظونها ويلقونها ويكثرون فيما بينهم دراستها فكره لهم أن يلهوا بذلك عن كتاب الله ، ويشتغلوا به عن كتب السنة وأحكام الملة لا غير اهـ .

                          فإن كانت حال الناس هكذا في زمن الإمام أحمد ، زمن حفظ السنة وروايتها والتفقه والعمل بها ، واشتراك الصوفية في ذلك ، فماذا عسى أن يقال في هذا الزمن وأهله وأنت لا تجد في علماء مصر حافظا ، ولا من يصح أن يسمى محدثا ، دع متصوفته الذين يستحوذ على أكثرهم الجهل ، ويوجد فيهم المنافقون الذين يتخذهم الأجانب جواسيس ودعاة للاستعمار ، محتجين بشبهة الرضا بالأقدار ، وهم أكبر مصائب الإسلام في المستعمرات الفرنسية الإفريقية ومن شيوخهم من يأخذ الرواتب المالية من حكامها ، ومن نال بعض أوسمتها الشرفية .

                          فهذا نموذج من كلام أئمة الإسلام ندعم به ما ذكرناه من الحجج والنصوص في دعوة المسلمين إلى فهم القرآن والاهتداء به ، وبما ورد في السنة من بيانه والاكتفاء بعباداتهما وأذكارهما والاستغناء بها عن كل ما عداها من غير غلو ولا تكلف لما لا يسهل المواظبة عليه ، والتفرغ بعد ذلك إلى القيام بفروض الكفايات من الدفاع عن الإسلام وتعزيزه ، ودفع الأذى والاستعباد والظلم عن أهله ، وإعزاز الأمة بالقوة والثروة بالطرق المشروعة المبنية على الفنون الصحيحة والنظام ، وإنفاقها في سبيل الله ، فهذا أفضل من تلك الأوراد التي لم تبلغ أن تكون من نوافل العبادات على ما فيها من البدع والضلالات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية