الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق هذا بيان مستأنف للمراد من إتمام نور الله عز وجل . وهو أن الله الذي كفل إتمام هذا النور هو الذي أرسل رسوله الأكمل الذي أخذ العهد على النبيين من قبل : لتؤمنن به ولتنصرنه ( 3 : 81 ) إن جاء في زمن أحد منهم ، أرسله بالهدى الأتم الأكمل الأعم الأشمل ، ودين الحق أي: الثابت المتحقق الذي لا ينسخه دين آخر ، ولا يبطله شيء آخر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( 41 : 42 ) وهو في مقابلة قوله في أهل الكتاب الذي ذكر في أول هذا السياق : ولا يدينون دين الحق ( 9 : 29 ) ; لأنهم أضاعوا حظا عظيما من كتب أنبيائهم ومواعظهم وحرفوا الباقي منها فلم يقيموه على وجهه ، بل استبدلوا به تقاليد وضعها لهم الرؤساء بأهوائهم ، كما تقدم شرحه في هذا السياق . فعلم بهذا أن المراد بالحق الأمر الثابت المتحقق ، وأن إضافة الدين إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع ، وفيه وجه آخر صحيح يجامعه ولا يباينه ، وهو أن معناه دين الله المحض الذي لا شائبة فيه كالشوائب التي عرضت للأديان السابقة ولما بقي من كتبها . وكلمة الحق من أسماء الله تعالى كما قال : فذلكم الله ربكم الحق ( 10 : 32 ) .

                          ومن المعلوم عند جميع علماء التاريخ العام - ولا سيما تاريخ الأديان - أنه لا يوجد دين منقول عمن جاء به من رسل الله تعالى أو من غيرهم نقلا صحيحا متواترا بالقول والفعل متصل الأسانيد إلا دين الإسلام . وقد ذكرنا في الفصل الذي عقدناه لإثبات ضياع كثير من الإنجيل وتحريف النصارى لكتبهم المقدسة في آخر تفسير 5 : 13 من سورة المائدة ، أن فيلسوفا هنديا درس تواريخ الأديان كلها ، وبحث فيها بحث حكيم منصف لا يريد إلا استبانة الحق ، وأطال البحث في النصرانية لما للدول المنسوبة إليها من الملك وسعة السلطان ، ونظر بعد ذلك كله في الإسلام ، فكانت غاية ذلك الدرس أن عرف بالبرهان أن الإسلام هو الدين الحق ، فأسلم وألف كتابا باللغة الإنجليزية عنوانه ( لماذا أسلمت ) أظهر فيه مزاياه على جميع الأديان ، وكان من أهمها عنده أنه هو الدين الوحيد الذي له تاريخ ثابت محفوظ . . . . وكان من مثار العجب عنده أن ترضى أوربة لنفسها دينا ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر فتجعله إلها وهي لا تعرف من تاريخه شيئا يعتد به . . . ثم بين غاية إرسال خاتم النبيين والمرسلين بدين الحق أو علته بقوله : ليظهره على الدين كله يقال أظهر الشيء : أوضحه وأبانه فجعله ظاهرا لا خفاء فيه . وأظهر فلانا على الشيء [ ص: 339 ] أو على الخبر : أطلعه عليه وأخبره به ، ومنه قوله تعالى : فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ( 72 : 26 و 27 ) وقوله : وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه ( 66 : 3 ) إلخ . وأظهره على الشيء أو على الشخص جعله فوقه مستعليا عليه . والاستعلاء هنا بالعلم والحجة ، أو السيادة والغلبة ، أو الشرف والمنزلة ، أو بها كلها ، وهو المختار ، وإن كان الوعد يصدق ببعضها ، والدين جنس يشمل كل دين .

                          وفي الضمير المنصوب هنا قولان : ( أحدهما ) أنه للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ والمعنى حينئذ أنه تعالى يظهر هذا الرسول على كل ما يحتاج إليه المرسل هو إليهم من أمور الدين عقائده وآدابه وسياسته وأحكامه ; لأن ما أرسله به هو الدين الأخير الذي لا يحتاج البشر بعده إلى زيادة في الهداية الدينية ; بل يوكلون فيما وراء نصوصه إلى اجتهادهم واختبارهم العلمي والعملي مع الاهتداء بها ، حتى لا يضلوا ولا يتفرقوا بتركها ، ونحن نعلم من كتب الأديان وتاريخها أنها ليست كذلك ، بل لا تعدو كتب كل منها حاجة المخاطبين بها من قوم رسولها ، فاليهودية دين شعب نسبي أراد الله تربيتهم بشريعة شديدة التضييق عليهم ; لتطهيرهم من الوثنية وعبادة البشر ، ليقيموا التوحيد في بلاد مباركة استحوذ عليها الشرك ، وقد كان ذلك زمنا ما ، ثم فسدوا وصار أكثرهم وثنيين ماديين فبعث الله إليهم المسيح عليه السلام بتعاليم شديدة المبالغة في الزهد ومقاومة المفاسد المادية ، وكبح جماح الشهوات الجسدية ، فكان له ما كان من التأثير فيهم في الروم وغيرهم زمنا ما ، ولكن غلا بعضهم في الزهد ، وعرض لهم فيه الغرور مع الجهل ، وعاد الأكثرون إلى الإسراف في الشهوات والعلو في الأرض ، وكان هذا بعد ذاك تمهيدا للدين التام الوسط الجامع بين المصالح المادية والمعنوية ، والمزايا الروحية والجسدية ; ليكون عاما للبشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

                          وهذه النصرانية التي يدعي أهلها أنها دين عام بالرغم مما في أناجيلها من قول المسيح لهم إنه لم يرسل ، ولم يرسلهم إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ، يعترفون بأنه قال : ( مت 5 : 17 لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل ) إلخ ونقلوا عنه أيضا أنه مع هذا قال : ( يو 16 : 12 إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ; لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ) إلخ .

                          وهذا لا يصدق ولا يمكن تأويله إلا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أخبرهم وأخبر غيرهم بكل شيء من أمر الدين : ما فرطنا في الكتاب من شيء ( 6 : 38 ) وإنما أخبر عن الله [ ص: 340 ] عز وجل لا من عند نفسه وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( 53 : 3 ، 4 ) وأخبرهم بأمور آتية كثيرة جدا صريحة بعضها في القرآن ، وأظهرها غلب الروم الفرس في مدى بضع سنين ، وبعضها في الأحاديث الصحيحة ، ومن المتواتر منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمار بن ياسر : " تقتلك الفئة الباغية " وفي روايات بالغيبة ، أي قال هذا له ولغيره ، وقوله على المنبر في الحسن عليه السلام ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " وإخباره فاطمة عليها السلام بموته ، وبأنها أول من يلحق به ، وإخباره بموت النجاشي يوم موته وصلاته عليه إلخ إلخ . ولا يزال الزمان يظهر صدقه في كل ما أخبر به في وقته - وقد مجد المسيح صلوات الله وسلامه عليهما بنفي طعن اليهود فيه وفي أمه ، وإثبات كونه ولد طاهرا من الدنس بكلمة الله ، وكونه من روح الله ومؤيدا بآيات الله ، وبينا كل ذلك في تفسير الآيات الواردة فيه ، وقد سماه المسيح باسمه الدال على الحمد الكثير ( أحمد ) ومثله محمد وهو في نسخ الإنجيل اليونانية والعربية القديمة البارقليط ، ثم غيروه في التراجم الأخيرة فسموه العزى كما فصلنا ذلك في تفسير سورة الأعراف .

                          والقول الثاني : أن الضمير لدين الحق الذي أرسل به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعناه أنه تعالى يعلي هذا الدين ، ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان والهداية والعرفان والعلم والعمران ، وكذا السيادة والسلطان ( كما قلنا آنفا ) ولم يكن لدين من الأديان مثل هذا التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي إلا للإسلام وحده .

                          لا ننكر أن جميع أتباع الأنبياء قد صلحت حالهم باهتداء كل منهم بنبيهم مدة اهتدائهم به ، ولكن التاريخ لم يرو لنا أنه كان لدين من الأديان كل هذه الفوائد بتأثيره فيهم .

                          أما ظهور الإسلام بالحجة والبرهان ، فلا يختلف فيه عاقلان مستقلان ، عرفاه وعرفا غيره من الأديان ، وقد ذكرنا في هذا السياق بعض الشواهد على هذا من كلام علماء الإفرنج المستقلين ، وأشرنا إلى غير ما ذكرناه منها مما يمكن لمقتني مجلدات مجلة المنار أن يراجعوه في أكثرها بالاستعانة بالفهرس العام ، ولا سيما لفظ الإسلام .

                          وأما ظهوره عليها بالعلم والعمران ، والسيادة والسلطان ، فالذي يتراءى للناس بادي الرأي في هذا الزمان ، أنه معارض بما عليه دول الإفرنج واليابان وضعف ما بقي من دول الإسلام ، وإنه إنما يظهر وجهه في دول العرب الأولى وكذا دولة الترك في أول عهدها .

                          ونجيب عن ذلك بأن ما عليه دول الإفرنج واليابان وشعوبهما ليس من تأثير أديانهما في تعاليمها ، ولا في العمل بها ، ولو كان كذلك لظهر عقب وجود الدين فيهم وأخذهم به ، وقد نقلنا في هذا السياق عن علماء الإفرنج الأحرار المستقلين أن مدنيتهم الحاضرة [ ص: 341 ] وما بنيت عليه من العلوم والفنون ، لم يكن إلا من تأثير الحضارة الإسلامية والاقتباس من كتبها ، ومن المعلوم لكل ملم بالتاريخ الحديث أن اليابان اقتبست حضارتها وقوتها من أوربة في القرن الماضي ، وحضارة العرب لا يمكن أن يكون لها سبب إلا هداية دينهم .

                          وقد قصر جميع المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم في تفسير هذه الآيات ; لأنهم إنما يأخذون تفاسيرهم من معاني الألفاظ دون تحقيق لمدلولاتها في الخارج ومن الروايات المأثورة على قلتها وقلة ما يصح منها ، وقد صح في بعضها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها وهو حديث طويل رواه مسلم من حديث ثوبان وفي مسند أحمد عن شاب من محارب مرفوعا " أنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها " وهو مطلق غير مقيد بما روي له ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأطلعه الله عليه من الأرض ، ومن علماء الأصول من يوجب حمل المطلق على المقيد وفي بعضها تعيين مصر ، وأوصى بالقبط خيرا والشام وملك كسرى وقيصر ، وكل هذا قد تم ، فإن كان شيء مما صح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيفتح للمسلمين ولما يفتح فلا بد أن يفتح .

                          روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال : دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : " يا عدي أسلم تسلم ، قلت : إني من أهل دين . قال : أنا أعلم بدينك منك ، فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : نعم ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت : بلى . قال ; فإن هذا لا يحل لك في دينك " قال : فلم يعد أن قالها فتواضعت لها . قال : " أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام . تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ قلت : لم أرها ، ولكن سمعت بها . قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز . قلت ; كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد " قال عدي : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز . والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ; لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالها ، انتهى من تفسير العماد بن كثير .

                          [ ص: 342 ] ومن العلماء من يقول : إن بعض هذه البشارات لا يتم إلا في آخر الزمان عند ظهور المهدي ، وما يتلوه من نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء وإقامته لدين الإسلام الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهاره بالحكم والعمل به ، خلافا لما يتوقعه اليهود والنصارى على اختلافهما في صفته ، وقد كان شيوع هذا بين المسلمين من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالى في كل وقت من إعلاء دينه ، وإقامة حجته وحماية دعوته ، وتنفيذ شريعته وتعزيز سلطته اتكالا على أمور غيبية مستقبلة لا تسقط عنهم فريضة حاضرة ، وقد تقدم في الكلام على أشراط الساعة من تفسير سورة الأعراف أن أحاديث المهدي لا يصح منها شيء يحتج به ، وأنها مع ذلك متعارضة متدافعة ، وأن مصدرها نزعة سياسية شيعية معروفة ، وللشيعة فيها خرافات مخالفة لأصول الدين لا نستحسن نشرها في هذا التفسير . وأما أحاديث نزول عيسى فبعض أسانيدها صحيحة ، وهي على تعارضها واردة في أمر غيبي متعلق بأحاديث الدجال المتعارضة مثلها كما تقدم بيانه أيضا في ذلك البحث فينبغي أن يفوض أمرها إلى الله تعالى ، وألا تكون سببا للتقصير في إقامة الدين والدنيا بما شرعه الله تعالى فيهما .

                          وقد كان اليهود يتكلون في إعادة ملكهم في فلسطين وما جاورها على ما في كتب أنبيائهم من البشائر بظهور المسيح ( مسيا ) الذي يعيده لهم بخوارق العادات فلما طال عليهم الأمد ، ومرت ألوف السنين ، ولم يقع ذلك هبوا إلى إعادته بالأسباب الكسبية حتى إنهم سخروا الدولة الإنكليزية لمساعدتهم عليه ، ومعاداة العرب وسائر المسلمين في سبيله ، أفلسنا أحق بحفظ ما بقي من ملكنا ، واستعادة ما فقدنا منه بكسبنا واجتهادنا ، من هؤلاء اليهود على قلتهم وكثرتنا ؟ بلى والله ، وإن من الجهل بالدين وسنن الله في الخلق أن نقصر في ذلك اتكالا على المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، ومتى جاء وكنا مقيمين لديننا كنا أجدر بالانتفاع به ، بل لا يعقل أن يعتد المهدي والمسيح بدين أحد لا يفعل ما يستطيع في إقامة فرائض الله وحدوده وسبق لي أن أطلت في بيان هذه المسألة في كتابي ( الحكمة الشرعية ) الذي ألفته في عهد طلبي للعلم في طرابلس الشام ، وقد بينت في هذا السياق ما نرجوه ونتوقعه من ظهور الإسلام في المستقبل القريب ، وبذلك تتم هذه البشارات على أكمل وجه ، وكذا ما في معناها كقوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ( 24 : 55 ) الآية .

                          ولو كره المشركون ذلك الإظهار ، وفيه ما تقدم في مثله من الآية السابقة والشرك أخص من الكفر ، وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه ، وإظهاره على جميع الأديان سيكون بالرغم من [ ص: 343 ] أنوف جميع الكفار والمشركين منهم بالله تعالى وغير المشركين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ( 30 : 4 - 7 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية