الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          حتى تغتسلوا أي : لا تقربوا الصلاة جنبا إلا بأدائها ، ولا بالمكث في مكانها إلى أن تغتسلوا إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل في المسجد ، وحكمة الاغتسال من الجنابة كحكمة الوضوء وهي النظافة والطهارة كما سيأتي في آية الوضوء من سورة المائدة ، ولهاتين الطهارتين فوائد صحية وأدبية سنبينها هنا بالتفصيل إن شاء الله تعالى ، والاغتسال عبارة عن إفاضة الماء على البدن كله ، ومن شأن الجنابة أن تحدث تهيجا في المجموع العصبي فيتأثر بها البدن كله ويعقبها فتور ، وضعف فيه يزيله الماء ; ولذلك جاء في الحديث الصحيح : إنما الماء من الماء رواه مسلم .

                          وقد جهل هذا من اعترض على حكمة التشريع ، وقال : لو كان الدين موافقا للعقل لما أوجب في الجنابة إلا غسل أعضاء التناسل ، فأوجب الله تعالى فيما جعله غاية للنهي عن صلاة الجنب أن يتحرى الإنسان في صلاته النظافة والنشاط ، كما أوجب فيما جعله غاية للنهي عن صلاة السكران أن يتحرى فيها العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر ، ويتوقف هذا على معرفة لغة القرآن فهي واجبة على كل مسلم ـ كما تقدم ـ وهذا شيء من حكمة مشروعية الغسل .

                          ولما كان الاغتسال من الجنابة يتعسر في بعض الأحوال ، ويتعذر في بعضها ومثله الوضوء ، وكانت الصلاة عبادة محتومة وفريضة موقوتة لا هوادة فيها ولا مندوحة عنها ; لأنها بتكرارها تذكر المرء إذا نسي مراقبة الله تعالى فتعده للتقوى ، بين لنا سبحانه الرخصة في ترك استعمال الماء ، والاستعاضة عنه بالتيمم ، فقال : وإن كنتم مرضى أو على سفر طويل أو قصير ، والشأن فيهما تعسر استعمال الماء ، ولا سيما في الحجاز وغيره من جزيرة العرب ، وقد يكون الماء ضارا بالمريض كبعض الأمراض الجلدية والقروح أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء أي : أو أحدثتم حدثا أصغر ، وهو خروج شيء من أحد السبيلين ـ القبل والدبر ـ وعبر عنه بالمجيء من الغائط كناية كما هي سنة القرآن في النزاهة بالكناية عما لا يحسن التصريح به ، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض كالوادي ، وأهل البوادي والقرى الصغيرة يقصدون بحاجتهم الأماكن المنخفضة لأجل الستر ، والاستخفاء عن الأبصار ، ثم صار لفظ الغائط حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال ، ويكنى عن الحديث في المدن الآهلة [ ص: 97 ] التي تتخذ فيها الكنف بكنايات أخرى ، وملامسة النساء : كناية عن غشيانهن والإفضاء إليهن ، وحقيقة اللمس المشترك من الجانبين ولو باليد فهو كالمباشرة ، وحقيقتها إصابة البشرة للبشرة ، وهي ظاهر الجلد ، وقرأ حمزة والكسائي " أو لمستم " ولا تنافي قراءتهما ذلك التجوز المشهور ، وقال الشافعي : إن الآية تدل على نقض الوضوء بلمس بشرة النساء إلا المحارم منهن ، وبه قال الزهري والأوزاعي فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أي : ففي هذه الحالات : المرض والسفر وفقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل تيمموا صعيدا طيبا ، أي اقصدوا وتحروا مكانا ما من صعيد الأرض ، أي : وجهها طيبا ، أي طاهرا لا قذر فيه ولا وسخ ، فامسحوا هناك وجوهكم وأيديكم ، تمثيلا لمعظم عمل الوضوء فصلوا ، فقيد فلم تجدوا ماء للجائي من الغائط وملامس النساء على مذهب من يجعل القيد بعد الجمل للأخيرة ، ومذهب من يجعله للجميع إلا أن يمنع مانع ، والمانع هنا : أنه لا يظهر وجه لاشتراط فقد الماء لتيمم المريض ، والمسافر دون الصحيح والمقيم .

                          الأستاذ الإمام : المعنى أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثا أصغر ، أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط ، هذا ما يفهمه القارئ من الآية نفسها إذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراء القرآن يجعلها بالتكلف حجة له منطبقة عليه ، وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرا فلم أجد فيها غناء ، ولا رأيت قولا فيها يسلم من التكلف ، ثم رجعت إلى المصحف وحده فوجدت المعنى واضحا جليا ، فالقرآن أفصح الكلام وأبلغه وأظهره ، وهو لا يحتاج عند من يعرف العربية ـ مفرداتها وأساليبها ـ إلى تكلفات فنون النحو وغيره من فنون اللغة عند حافظي أحكامها من الكتب مع عدم تحصيل ملكة البلاغة ـ إلى آخر ما أطال به في الإنكار على المفسرين الذين عدوا الآية مشكلة ; لأنها لم تنطبق على مذاهبهم انطباقا ظاهرا سالما من الركاكة وضعف التأليف ، والتكرار التي يتنزه عنها أعلى الكلام وأبلغه ، وإذا كان رحمه الله قد راجع خمسة وعشرين تفسيرا رجاء أن يجد فيها قولا لا تكلف فيه ، فأنا لم أراجع عند كتابة تفسيرها إلا روح المعاني وهو آخر التفاسير المتداولة تأليفا ، وصاحبه واسع الاطلاع فإذا به يقول : " الآية من معضلات القرآن " ، ووالله إن الآية ليست معضلة ولا مشكلة ، وليس في القرآن معضلات إلا عند المفتونين بالروايات والاصطلاحات ، وعند من اتخذوا المذاهب المحدثة بعد القرآن أصولا للدين يعرضون القرآن عليها عرضا ، فإذا وافقها بغير تكلف أو بتكلف قليل فرحوا وإلا عدوها من المشكلات والمعضلات ; على أن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين ، وأن حكم الله يلتمس فيه أولا فإن وجد فيه يؤخذ ، وعليه يعول ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر ، [ ص: 98 ] وإن لم يوجد التمس من سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، على هذا أقر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذا حين أرسله إلى اليمن ; وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين ، وقد رأى القارئ أن معنى الآية واضح في نفسه لا تكلف فيه ولا إشكال ، ولله الحمد .

                          سيقول أدعياء العلم من المقلدين : نعم إن الآية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم ، ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ، ولو مع وجود الماء ، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا ، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه ، ولنا أن نقول لمثل هؤلاء ـ وإن كان المقلد لا يحاج ؛ لأنه لا علم له ـ وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلا مشكلا ؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح : آلطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء ، أم تجويز الخطأ على الفقهاء ؛ لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف ، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها وإباحة الفطر في رمضان ، فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء ، وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين ؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر ؟ أفلا يتصور المنصف أن المشقة فيهما أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها ؟ هل يقول منصف : إن صلاة الظهر ، أو العصر أربعا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء فيه ؟ السفر مظنة المشقة يشق فيه غالبا كل ما يؤتى في الحضر بسهولة ، وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء ، وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه ، واضرب لهم مثلا هذه الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، فإن الماء فيها كثير دائما وفي كل باخرة منها حمامات ، أي : بيوت مخصوصة للاغتسال بالماء السخن والماء البارد ، ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يسافرون في الدرجة الأولى أو الثانية ، وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر ، فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها من الماء المعد للاستحمام ما لم يكن يوجد مثله في بيت أحد من أهل المدينة زمن التنزيل يشق فيها الاغتسال أو يتعذر ، فما قولك في الاغتسال في قطارات سكك الحديد أو قوافل الجمال أو البغال ؟

                          ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن ، التي هي أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام ، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص ، وعليه مدار الأحكام ، واحتمال ربط قوله تعالى : فلم تجدوا ماء بقوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر بعيد ، بل ممنوع ألبتة ـ كما تقدم ـ على أنهم لا يقولون به في المرضى ؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له ؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه ، فيكون ذكرهم [ ص: 99 ] لغوا يتنزه عنه القرآن ، ونقول : إن ذكر المسافرين كذلك ، فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع ، فلولا أن السفر سبب للرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة ; ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف ، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر ، أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك ، رووا " أنها نزلت في بعض أسفار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد انقطع فيها عقد لعائشة ، فأقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التماسه والناس معه وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فأغلظ أبو بكر على عائشة ، وقال : حبست رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فنزلت الآية ، فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن حضير إلى مضرب عائشة ، فجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر " رواه الستة ، وفي رواية : يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا فهذه الرواية ، وهي من وقائع الأحوال لا حكم لها في تغيير مدلول الآية ، ولا تنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببا لها ، ألا ترى أنها شملت المرضى ، ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده ، وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدا للماء ، ولا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل التيمم فيها خاصا بفاقدي الماء دون غيرهم ، ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء التي هي عمدة الفقهاء على أنها منقولة بالمعنى ، وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلا ، ومفهومها مفهوم مخالفة ، وهو غير معتبر عند الجمهور ولا سيما في معارضة منطوق الآية ، وإننا نرى رخصة قصر الصلاة قد قيدت بالخوف من فتنة الكافرين كما سيأتي في هذه السورة ، ونرى هؤلاء الفقهاء كلهم لم يعملوا فيها بمفهوم هذا الشرط المنصوص الذي كان سبب الرخصة ، أفلا يكون ما هنا أولى بألا يشترط فيه شرط ليس في كتاب الله ؟ وروي في سبب النزول أيضا أن الصحابة نالتهم جراحة وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزلت ، وروي أيضا أنها نزلت فيمن اغتسل في السفر بمشقة وسيأتي .

                          وإذا ثبت أن التيمم رخصة للمسافر بلا شرط ، ولا قيد بطلت كل تلك التشديدات التي توسعوا في بنائها على اشتراط فقد الماء ، ومنها ما قالوه من وجوب طلبه في السفر ، وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث ، وأذكر أنني عندما كنت أدرس شرح المنهاج في فقه الشافعية قرأت باب التيمم في شهرين كاملين لم أترك الدرس فيهما ليلة واحدة ، فهل ورد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أحد الصحابة تكلم في التيمم يومين أو ساعتين ؟ وهل كان هذا التوسع في استنباط الأحكام والشروط والحدود سعة ورحمة على المؤمنين أم عسرا وحرجا عليهم وهو ما رفعه الله عنهم ؟ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية