الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وتكلم في الرجال - كما قاله الذهبي - جماعة من الصحابة ، ثم من التابعين كالشعبي وابن سيرين ، ولكنه في التابعين ; أي : بالنسبة لمن بعدهم بقلة ; لقلة الضعف في متبوعيهم ; إذ اكثرهم صحابة عدول ، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات ، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض في الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد ; كالحارث الأعور والمختار الكذاب ، فلما مضى القرن الأول ودخل الثاني كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء ، الذين ضعفوا غالبا من قبل تحملهم وضبطهم للحديث ، فتراهم يرفعون الموقوف ويرسلون كثيرا ، ولهم غلط ; كأبي هارون العبدي ، فلما كان عند آخر عصر التابعين - وهو حدود الخمسين ومائة - تكلم في التوثيق والتضعيف طائفة من [ ص: 353 ] الأئمة ، فقال أبو حنيفة : ما رأيت أكذب من جابر الجعفي . وضعف الأعمش جماعة ، ووثق آخرين ، ونظر في الرجال شعبة وكان متثبتا لا يكاد يروي إلا عن ثقة ، وكذا كان مالك ، وممن إذا قال في هذا العصر قبل قوله ، معمر وهشام الدستوائي والأوزاعي والثوري وابن الماجشون وحماد بن سلمة والليث وغيرهم ، ثم طبقة أخرى بعد هؤلاء ; كابن المبارك وهشيم وأبي إسحاق الفزاري والمعافى بن عمران الموصلي وبشر بن المفضل ، وابن عيينة وغيرهم ، ثم طبقة أخرى في زمانهم ; كابن علية وابن وهب ووكيع ، ثم انتدب في زمانهم أيضا لنقد الرجال الحافظان الحجتان ; يحيى بن سعيد القطان وابن مهدي ، فمن جرحاه لا يكاد يندمل جرحه ، ومن وثقاه فهو المقبول ، ومن اختلفا فيه وذلك قليل اجتهد في أمره ، ثم كان بعدهم ممن إذا قال ، سمع منه إمامنا الشافعي ويزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وأبو عاصم النبيل ، وبعدهم طبقة أخرى كالحميدي والقعنبي وأبي عبيد ويحيى بن يحيى وأبي الوليد الطيالسي ، ثم صنفت الكتب ودونت في الجرح والتعديل والعلل وبين من هو في الثقة والثبت كالسارية ، ومن هو في الثقة كالشاب الصحيح الجسم ، ومن هو لين كمن توجعه رأسه وهو متماسك يعد من أهل العافية ، ومن صفته كمحموم ترجح إلى السلامة ، ومن صفته كمريض شبعان من المرض ، وآخر كمن سقط قواه وأشرف على التلف وهو الذي يسقط حديثه ، وولاة الجرح والتعديل بعد من ذكرنا يحيى بن معين ، وقد سأله عن الرجال غير واحد من الحفاظ ، ومن ثم اختلفت آراؤه وعبارته في بعض الرجال كما اختلف اجتهاد الفقهاء وصارت لهم الأقوال والوجوه ، فاجتهدوا في المسائل ، كما اجتهد ابن معين في الرجال ، ومن طبقته أحمد بن حنبل ، سأله جماعة من تلامذته عن الرجال وكلامه فيهم باعتدال وإنصاف وأدب وورع .

[ ص: 354 ] وكذا تكلم في الجرح والتعديل أبو عبد الله محمد بن سعد كاتب الواقدي في طبقاته بكلام جيد مقبول ، وأبو خيثمة زهير بن حرب له كلام كثير رواه عنه ابنه أحمد وغيره ، وأبو جعفر عبيد الله بن محمد النبيل حافظ الجزيرة الذي قال فيه أبو داود : لم أر أحفظ منه . وعلي بن المديني ، وله التصانيف الكثيرة في العلل والرجال ، ومحمد بن عبد الله بن نمير الذي قال فيه أحمد : هو درة العراق ، وأبو بكر بن أبي شيبة صاحب ( المسند ) ، وكان آية في الحفظ ، يشبه بأحمد في المعرفة ، وعبيد الله بن عمر القواريري الذي قال فيه صالح جزرة : هو أعلم من رأيت بحديث أهل البصرة ، وإسحاق ابن راهويه إمام خراسان ، وأبو جعفر محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ ، وله كلام جيد في الجرح والتعديل ، وأحمد بن صالح الطبري حافظ مصر وكان قليل المثل ، وهارون بن عبد الله الحمال ، وكلهم من أئمة الجرح والتعديل .

ثم خلفهم طبقة أخرى متصلة بهم ، منهم إسحاق الكوسج والدارمي والذهلي والبخاري والعجلي الحافظ نزيل المغرب ، ثم من بعدهم أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ، ومسلم وأبو داود السجستاني وبقي بن مخلد وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم ، ثم من بعدهم عبد الرحمن بن يوسف بن خراش البغدادي له مصنف في الجرح والتعديل ، قوي النفس كأبي حاتم ، وإبراهيم بن إسحاق الحربي ، ومحمد بن وضاح الأندلسي حافظ قرطبة ، وأبو بكر بن أبي عاصم ، وعبد الله بن أحمد ، وصالح جزرة وأبو بكر البزار ، وأبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة وهو ضعيف ، لكنه من أئمة هذا الشأن ، ومحمد بن نصر المروزي ، ثم من بعدهم أبو بكر الفريابي والبرديجي والنسائي وأبو يعلى والحسن بن سفيان وابن خزيمة وابن جرير الطبري والدولابي وأبو عروبة الحراني وأبو الحسن أحمد بن عمير بن جوصا وأبو جعفر العقيلي .

ثم طبقة أخرى ، منهم ابن أبي حاتم ، وأبو طالب أحمد بن نصر البغدادي الحافظ شيخ الدارقطني وابن عقدة وعبد الباقي بن قانع ، ثم من بعدهم أبو سعيد بن يونس وابن حبان البستي والطبراني وابن عدي الجرجاني [ ص: 355 ] ومصنفه في الرجال ، إليه المنتهى في الجرح كما تقدم ، ثم بعدهم أبو علي الحسين بن محمد الماسرجسي النيسابوري ، وله مسند معلل في ألف وثلاثمائة جزء ، وأبو الشيخ بن حيان ، وأبو بكر الإسماعيلي وأبو أحمد الحاكم والدارقطني وبه ختم ( معرفة العلل ) .

ثم بعدهم أبو عبد الله بن منده وأبو عبد الله الحاكم وأبو نصر الكلاباذي ، وأبو المطرف عبد الرحمن بن فطيس قاضي قرطبة ، وله دلائل السنة في خمس مجلدات ، وفضائل الصحابة كما أسلفته هناك ، وعبد الغني بن سعيد وأبو بكر بن مردويه الأصبهاني وتمام الرازي ، ثم بعدهم أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس البغدادي وأبو بكر البرقاني وأبو حازم العبدوي ، وقد كتب عنه عشرة أنفس عشرة آلاف جزء ، وخلف بن محمد الواسطي وأبو مسعود الدمشقي وأبو الفضل الفلكي ، وله كتاب ( الطبقات ) في ألف جزء ، وأبو القاسم حمزة السهمي وأبو يعقوب القراب وأبو ذر الهروبان ، ثم بعدهم أبو محمد الحسن بن محمد الخلال البغدادي وأبو عبد الله الصوري وأبو سعد السمان وأبو يعلى الخليلي ، ثم بعدهم ابن عبد البر وابن حزم الأندلسيان والبيهقي والخطيب ، ثم أبو القاسم سعد بن محمد الزنجاني ، وشيخ الإسلام الأنصاري وأبو صالح المؤذن وابن ماكولا وأبو الوليد الباجي ، وقد صنف في الجرح والتعديل وكان علامة حجة وأبو عبد الله الحميدي وابن مفوز المعافري الشاطبي ثم أبو الفضل بن طاهر المقدسي وشجاع بن فارس الذهلي ، والمؤتمن بن أحمد بن علي الساجي وشيرويه الديلمي الهروي مصنف ( تاريخ هراة ) وأبو علي الغساني ، ثم بعدهم أبو الفضل بن ناصر السلامي والقاضي عياض والسلفي وأبو موسى المديني وأبو القاسم بن عساكر وابن بشكوال . ثم بعدهم عبد الحق الإشبيلي وابن الجوزي وأبو عبد الله بن الفخار المالقي وأبو القاسم السهيلي ، ثم أبو بكر الحازمي وعبد الغني [ ص: 356 ] المقدسي والرهاوي وابن مفضل المقدسي ، ثم بعدهم أبو الحسن بن القطان وابن الأنماطي وابن نقطة وابن الدبيثي وابن خليل الدمشقي ، وأبو بكر بن خلفون الأزدي وابن النجار ثم الزكي المنذري والبرزالي والصريفيني والرشيد العطار وابن الصلاح وابن الأبار وابن العديم وأبو شامة وأبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي وابن الصابوني .

ثم بعدهم الدمياطي وابن الظاهري والميدومي والد الصدر وابن دقيق العيد وابن فرج وعبيد الإسعردي ، ثم بعدهم سعد الدين الحارثي والمزي وابن تيمية والذهبي وصفي الدين القرافي وابن البرزالي والقطب الحلبي وابن سيد الناس .

في آخرين من كل طبقة ، منهم في شيوخ شيوخنا المصنف ، ثم تلميذه شيخنا ، وفاق في ذلك على جميع من أدركه ، وطوي البساط بعده إلا لمن شاء الله ، ختم لنا بخير ، فعدلوا وجرحوا ، ووهنوا وصححوا ، ولم يحابوا أبا ولا ابنا ولا أخا ، حتى إن ابن المديني سئل عن أبيه ، فقال : سلوا عنه غيري . فأعادوا ; فأطرق ثم رفع رأسه فقال : هو الدين ، إنه ضعيف ، وكان وكيع بن الجراح لكون والده كان على بيت المال ، يقرن معه آخر إذا روى عنه ، وقال أبو داود صاحب ( السنن ) : ابني عبد الله كذاب ، وإن تأولناه في غير هذا الكتاب ، ونحوه قول الذهبي في ولده أبي هريرة : إنه حفظ القرآن ثم تشاغل عنه حتى نسيه . وقال زيد بن أبي أنيسة كما في مقدمة مسلم : لا تأخذوا عن أخي . يعني يحيى المذكور بالكذب .

[ ص: 357 ] نعم في الخلفاء وآبائهم وأهليهم كما قاله الذهبي في ترجمة داود بن علي بن عبد الله بن عباس من تاريخ الإسلام له : قوم أعرض أهل الجرح والتعديل عن كشف حالهم ; خوفا من السيف والضرب ، قال : وما زال هذا في كل دولة قائمة يصف المؤرخ محاسنها ويغضي عن مساوئها هذا إذا كانت ذا دين وخير ; فإن كان مداحا مداهنا لم يلتفت إلى الورع ، بل ربما أخرج مساوئ الكبير وهناته في هيئة المدح والمكارم والعظمة ، فلا قوة إلا بالله .

ولا شك أن في المتكلمين في ذلك من المتأخرين من كان من الورع بمكان ، كالحافظ عبد الغني صاحب ( الكمال في معرفة الرجال ) المخرج لهم في الكتب الستة الذي هذبه المزي وصار كتابا حافلا ، عليه معول من جاء بعده ، واختصره شيخنا وغيره ، ومن المتقدمين من لم يشك في ورعه ; كالإمام أحمد ، بل قال : إنه أفضل من الصوم والصلاة . وابن المبارك فإنه قال : لو خيرت بين أن ادخل الجنة وبين أن القى عبد الله بن المحرر لاخترت أن القاه ثم أدخل الجنة . فلما رأيته كانت بعرة أحب إلي منه ، وابن معين مع تصريحه بقوله : إنا لنتكلم في أناس قد حطوا رحالهم في الجنة . والبخاري القائل : ما اغتبت أحدا مذ علمت أن الغيبة حرام . وحجتهم التوصل بذلك لصون الشريعة ، وأن حق الله ورسوله هو المقدم .

( ولقد أحسن ) الإمام ( يحيى ) بن سعيد القطان ( في جوابه ) لأبي بكر بن خلاد حين قال له : أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله [ ص: 358 ] يوم القيامة ؟ ( وسد ) بمهملتين ; أولاهما مفتوحة ، أي : وفق للسداد ، وهو الصواب والقصد من القول والعمل حيث قال : ( لأن يكونوا ) أي : المتروكون ( خصماء لي أحب ) إلي ( من كون خصمي المصطفى ) صلى الله عليه وسلم ( إذ لم أذب ) بفتح الهمزة وضم الذال المعجمة ثم موحدة ، أي : أمنع الكذب عن حديثه وشريعته ; ولذا رأى رجل عند موت ابن معين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مجتمعين ، فسألهم عن سبب اجتماعهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( جئت لأصلي على هذا الرجل فإنه كان يذب الكذب عن حديثي ) . ونودي بين نعشه هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رؤي في النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي وأعطاني وحباني وزوجني ثلاثمائة حوراء ، وأدخلني عليه مرتين . وقيل فيه :


ذهب العليم بعيب كل محدث وبكل مختلف وفي الإسناد     وبكل وهم في الحديث ومشكل
يعنى به علماء كل بلاد

فإن قيل : قد شغف جماعة من المتأخرين القائمين بالتاريخ وما أشبهه ; كالذهبي ثم شيخنا بذكر المعايب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، وذلك غيبة محضة ; ولذا تعقب ابن دقيق العيد ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء وقدح فيه بقوله : إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يجز . ونحوه قول ابن المرابط : قد دونت الأخبار ، وما بقي للتجريح فائدة ، بل انقطعت من رأس الأربعمائة ، ودندن هو غيره ممن لم يتدبر مقاله بعيب المحدثين بذلك ، قلت : الملحوظ في تسويغ ذلك كونه نصيحة ولا انحصار لها في الرواية ، فقد ذكروا من الأماكن التي يجوز فيها ذكر المرء بما يكره ولا يعد ذلك غيبة ، بل هو نصيحة واجبة ، أن تكون [ ص: 359 ] للمذكور ولاية لا يقوم بها على وجهها ، إما بأن لا يكون صالحا لها ، وإما بأن يكون فاسقا أو مغفلا أو نحو ذلك ، فيذكر ليزال بغيره ممن يصلح ، أو يكون مبتدعا أو فاسقا ويرى من يتردد إليه للعلم ويخاف عليه عود الضرر من قبله ببيان حاله ، ويلتحق بذلك المتساهل في الفتوى أو التصنيف أو الأحكام أو الشهادات أو النقل ، أو المتساهل في ذكر العلماء أو في الرشاء والارتشاء ; إما بتعاطيه له ، أو بإقراره عليه مع قدرته على منعه ، وآكل أموال الناس بالحيل والافتراء ، أو الغاصب لكتب العلم من أربابها أو المساجد ، بحيث تصير ملكا ، أو غير ذلك من المحرمات ، فكل ذلك جائز أو واجب ذكره ليحذر ضرره ، وكذا يجب ذكر المتجاهر بشيء مما ذكر ونحوه من باب أولى ، قال شيخنا : ويتأكد الذكر لكل هذا في حق المحدث ; لأن أصل وضع فنه بيان الجرح والتعديل ، فمن عابه بذكره لعيب المجاهر بالفسق أو المتصف بشيء مما ذكر فهو جاهل أو ملبس أو مشارك له في صفته فيخشى أن يسري إليه الوصف .

نعم لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد ، فقد قال العز بن عبد السلام في قواعده : إنه لا يجوز للشاهد أن يجرح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما ; فإن القدح إنما يجوز للضرورة فليقدر بقدرها ، ووافقه عليه القرافي ، وهو ظاهر . وقد قسم الذهبي من تكلم في الرجال أقساما ، فقسم تكلموا في سائر الرواة ; كابن معين وأبي حاتم ، وقسم تكلموا في كثير من الرواة ; كمالك وشعبة ، وقسم تكلموا في الرجل بعد الرجل ; كابن عيينة والشافعي ، قال : وهم الكل على ثلاثة أقسام أيضا : قسم منهم متعنت في التوثيق ، متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، فهذا إذا وثق شخصا فعض على قوله بنواجذك ، وتمسك [ ص: 360 ] بتوثيقه ، وإذا ضعف رجلا فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه ، فإن وافقه ولم يوثق ذاك الرجل أحد من الحذاق فهو ضعيف ، وإن وثقه أحد ، فهذا هو الذي قالوا : لا يقبل منه الجرح إلا مفسرا ، يعني لا يكفي فيه قول ابن معين مثلا : هو ضعيف . ولم يبين سبب ضعفه ، ثم يجيء البخاري وغيره يوثقه ، ومثل هذا يختلف في تصحيح حديثه وتضعيفه ، ومن ثم قال الذهبي ، وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال : لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة . انتهى .

ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه ، كما تقدم مع ترجيحه بما يحسن استحضاره هنا ، وقسم منهم متسمح ; كالترمذي والحاكم ، قلت : وكابن حزم فإنه قال في كل من أبي عيسى الترمذي وأبي القاسم البغوي وإسماعيل بن محمد الصفار وأبي العباس الأصم وغيرهم من المشهورين : إنه مجهول . وقسم معتدل ; كأحمد والدارقطني وابن عدي .

( و ) لوجود المتشدد ومقابله نشأ التوقف في أشياء من الطرفين ، بل ( ربما رد كلام ) كل من المعدل و ( الجارح ) مع جلالته وإمامته ونقده وديانته ; إما لانفراده عن أئمة الجرح والتعديل ; كالشافعي رحمه الله في إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ; فإنه كما قال النووي : لم يوثقه غيره . وهو ضعيف باتفاق المحدثين ، لكن قد اعتذر الساجي عن الشافعي بأنه لم يخرج عنه إلا في الفضائل ، يعني وهم يتسامحون فيها ، وتعقب بأن الموجود خلافه ، وابن حبان بأن مجالسته لإبراهيم كانت في حداثته .

وعلى كل حال فقد اختار ابن الصلاح كما مضى في محله أن الإمام الذي له أتباع يقلدونه فيما يذهب إليه ، إذا احتج براو ضعفه غيره كان ذلك الراوي حجة في حق من قلد ذلك الإمام ، أو لتحامله ( كالنسائي ) بالإسكان للوزن ، صاحب ( السنن ) ( في أحمد بن صالح ) أبي جعفر المصري الحافظ المعروف بابن الطبري ، حيث جرحه فيما نقله عنه ابن عبد الكريم بقوله : ليس بثقة ولا مأمون ، تركه محمد [ ص: 361 ] بن يحيى ورماه يحيى بالكذب ، وقال في موضع آخر : ثنا معاوية بن صالح ، سمعت ابن معين يقول : أحمد بن صالح كذاب يتفلسف . انتهى .

فإنه - كما قال أبو يعلى الخليلي - ممن اتفق الحفاظ على أن كلامه فيه تحامل قال : ولا يقدح كلام أمثاله فيه . وقال الذهبي في ( الميزان ) : إنه آذى نفسه بكلامه فيه ، والناس كلهم متفقون على إمامته وثقته ، واحتج به البخاري في صحيحه ، وقال : إنه ثقة صدوق ، ما رأيت أحدا يتكلم فيه بحجة ، كان أحمد وابن نمير وغيرهما يثبتونه ، وكان يحيى - يعني ابن معين - يقول : سلوه ; فإنه ثبت . وممن وثقه العجلي ، وقال : صاحب سنة ، وأبو حاتم ، وقال ابن يونس : لم يكن عندنا . كما قال النسائي : لم تكن له آفة غير الكبر . والسبب في كلام النسائي فيه ما ذكره أبو جعفر العقيلي أن أحمد لم يكن يحدث أحدا حتى يسأل عنه ، فجاءه النسائي ، وقد صحب قوما من أصحاب الحديث ، ليسوا هناك ، فأبى أحمد أن يأذن له ، فعمد النسائي إلى جمع أحاديث قد غلط فيها ابن صالح فشنع بها ولم يضره ذلك .

وكذا قال ابن عدي : سمعت محمد بن هارون الرقي يقول : إنه حضر مجلسه فطرده منه فحمله ذلك على التكلم فيه ، وأما ما رواه من كلام ابن معين فيه فجزم ابن حبان بأنه اشتبه عليه ، فالذي تكلم فيه ابن معين إنما هو أحمد بن صالح الشمومي المصري شيخ بمكة ، كان يضع الحديث ، سأل معاوية عنه يحيى ، فأما هذا فهو يقارن ابن معين في الحفظ والإتقان ، وقواه شيخنا بنقل البخاري في هذا عن ابن معين ، كما حكيناه أنه ثبت ، على أن ابن يونس قد رد قول ابن معين أن لو كان في أبي جعفر بقوله : لعل ابن معين لا يدري ما الفلسفة ; فإنه ليس من أهلها ; ولذا كان أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها في ذلك ، كما ذكره ابن دقيق العيد ، وقال : إنه محتاج إليه في المتأخرين أكثر ; لأن الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة [ ص: 362 ] والمتأخرة حتى علوم الأوائل ، وقد علم أن علوم الأوائل قد انقسمت إلى حق وباطل ، فمن الحق علم الحساب والهندسة والطب ، ومن الباطل ما يقولونه في الطبيعيات وكثير من الإلهيات وأحكام النجوم ، وقد تحدث في هذه الأمور أقوام ، فيحتاج القادح بسبب ذلك أن يكون مميزا بين الحق والباطل ; لئلا يكفر من ليس بكافر أو يقبل رواية الكافر ، والمتقدمون قد استراحوا من هذا ; لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم ، ونحوه قول غيره : إنه مما ينبغي اعتماده في الجارح والمعدل أن يكون عالما باختلاف المذاهب ، فيجرح عند المالكي مثلا بشرب النبيذ متأولا ; لأنه يراه قادحا دون غيره ; إذ لو لم نعتبر ذلك لكان الجارح أو المعدل غارا لبعض الحكام حتى يحكم بقول من لا يرى قبول قوله ، وهو نوع من الغش .

وهنا لطيفة معترضة وهي أن أحمد بن صالح هذا تكلم في حرملة صاحب الشافعي ، فقال ابن عدي : إنه تحامل عليه ، وسببه أن أحمد سمع في كتب حرملة من ابن وهب فأعطاه نصف سماعه ومنعه النصف ، فتولدت بينهما العداوة من هذا ، وكان من يبدأ بحرملة إذا دخل مصر لم يحدثه أحمد بن صالح ، قال : ما رأينا أحدا جمع بينهما ، وكأن مراده من الغرباء ، وإلا فقد جمع بينهما أحمد بن رشدين شيخ الطبراني ، فجوزي أحمد بن صالح بما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية