الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 289 ] الباب الثامن في السهو

                                                                                                                وفيه مقدمة وستة فصول .

                                                                                                                أما المقدمة ففيها عشر قواعد ينبني عليها فصول هذا الباب .

                                                                                                                القاعدة الأولى : للصلاة فرائض وسنن وفضائل - كما تقدم - فالفرائض لا بد منها ، والسنن ينوب السجود عنها إن سها عنها ، والفضائل لا يسجد لسهوها ، ولا تعاد الصلاة لها .

                                                                                                                تنبيه

                                                                                                                قال صاحب الجواهر : يجب السجود للسنن التي أحصيناها فيما تقدم ، ومن جملة ما أحصي : الزيادة على مقدار الواجب من الجلوس الأخير ، والاعتدال في الفصل بين الأركان ، والصلاة على النبي - عليه السلام - وهذه لا خلاف في المذهب أنه لا يسجد لها ، وإنما يسجد كما قال صاحب المقدمات : لترك ثمان : [ ص: 290 ] السورة ، والجهر ، والإسرار ، والتكبير ، وسمع الله لمن حمده ، والتشهد الأول ، والجلوس له ، والتشهد الأخير .

                                                                                                                القاعدة الثانية :

                                                                                                                يسجد عندنا لنقص الأقوال المحدودة المتعلقة بالله تعالى ، ولنقص الأفعال على تفصيل يأتي ، وقولنا المحدودة احتراز من القنوت والتسبيح ، وقولنا المتعلقة بالله تعالى احتراز من الصلاة على النبي - عليه السلام - والأدعية ، وقال ش : لا يسجد لشيء من الأقوال إلا التشهد والقنوت والصلاة على النبي - عليه السلام - ويسجد للأفعال ، ووافقه أشهب في التكبير ، وقال ح : يسجد للأقوال الواجبة فإذا أتى بالفاتحة فقد أتى بالواجب فلا يسجد ، وفرق بين الواجب والركن فالواجب : ما له جابر ، والركن : ما لا جابر له كما نقوله نحن في الحج . وقال بالسجود لترك تكبيرات العيدين ، واعتبرها بالتشهد لتكررها في محل واحد ، لنا قوله عليه السلام : لكل سهو سجدتان . احتجوا بأن التكبير كلمتان ، فهو خفيف بالقياس على التسبيح .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن تكبيرة الإحرام كلمتان ، وكذلك السلام وهما ركنان ، وعن الثاني : أن محل النزاع في القول المحدود والتسبيح ليس بمحدود .

                                                                                                                [ ص: 291 ] القاعدة الثالثة :

                                                                                                                قال صاحب الطراز : الزيادة التي يبطل الصلاة عمدها موجبة للسجود خلافا لعلقمة والأسود في تخصيصهم السجود بالنقصان ، وقولنا يبطل عمدها كالركعة والسجدة مثلا احتراز من التطويل في القراءة والركوع والسجود . لنا قوله عليه السلام : إذا شك أحدكم في صلاته - الحديث وسيأتي .

                                                                                                                القاعدة الرابعة :

                                                                                                                أن السهو إذا تكرر من جنس واحد ومن جنسين أجزأت فيه سجدتان ، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة : إذا اجتمع الزيادة والنقصان سجد قبل وبعد ، وقال الأوزاعي : إن كان من جنس واحد تداخل كجمرات الحج ، وإلا فلا ، ولقوله عليه السلام : لكل سهو سجدتان .

                                                                                                                والجواب عن الأول أن السجود وجب لوصف السهو لقوله عليه السلام : إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين . وترتيب الحكم على الوصف يوجب عليه ذلك الوصف لذلك الحكم ، وإذا كان وصف السهو هو العلة اندرجت سائر أفراده تحت سجدتين ، كما أنه لما وجبت الفدية في الحج لوصف الطيب اندرج أفراده في الفدية الواحدة ، وعن الثاني أن المراد لكل سهو سجدتان فيه سائر أفراد السهو بدليل أنه - عليه السلام - سلم من اثنتين وهو سهو ، وقام وهو سهو ، وقام وتكلم وهو سهو ، ورجع إلى الصلاة وهو سهو ، وسجد لجميع ذلك [ ص: 292 ] سجدتين ; لأن الأصل ترتيب الأحكام على أسبابها ، فلولا ذلك لسجد عقيب كل سهو كسجود التلاوة .

                                                                                                                فرعان :

                                                                                                                الأول : لو تيقن السجود وشك هل هو قبل أو بعد ؟ قال في العتبية : سجد قبل ويبني على النقصان دون الزيادة كالشك في الركعات .

                                                                                                                الثاني : لو كثر سهوه واستنكحه ، قال صاحب المنتقى : لمالك ترك السجود للاستنكاح والسجود لما في الصحاح ، قال عليه السلام : إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى ؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس .

                                                                                                                القاعدة الخامسة :

                                                                                                                سجود السهو عند مالك للنقصان قبل ، وللزيادة على سبيل الأولى ، وقال ش : كلاهما قبل ، وقال ح : كلاهما بعد ، ورواه عن علي وابن مسعود وعمار وابن أبي وقاص رضوان الله عليهم أجمعين . وقال ابن حبيب : كلاهما قبل مورد النص . لنا ما في مسلم أنه - عليه السلام - قام من اثنتين فسجد قبل ، وسلم من اثنتين ومن ثلاث فسجد بعد ، ولأن النقصان بدل مما هو قبل السلام فيكون قبل السلام ، والزيادة زجر للشيطان عن الوسوسة في الصلاة ، لما فيه من ترغيمه فإن الإنسان إذا سجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم [ ص: 293 ] بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار - الحديث . فيكون بعد السلام حذرا من الزيادة ، احتج ش بما في مسلم ، قال عليه السلام : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا ؟ فليطرح الشك وليبن على ما يتيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان قد صلى خمسا شفعن له ما قد صلى ، وإن كان قد صلى إتماما لأربع كانتا له ترغيما للشيطان . وهو مضطرب الطرق ، وأكثر الحفاظ يروونه مرسلا ، ويحتمل أنه غير بالسجود عن سجدتي الركعة المكملة جمعا بين الأخبار .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الجواهر قال أشهب : إن تعمد التقديم فيما بعد السلام فسدت صلاته ، وقال ابن القاسم : يعيدها بعد وتصح .

                                                                                                                القاعدة السادسة :

                                                                                                                في الكتاب : السهو في النافلة كالفريضة ، وقال ش في أحد قوليه وابن سيرين : لا سجود في النافلة . لنا قوله عليه السلام : لكل سهو سجدتان ، ولأنه جائز لما اختل من موجب الإحرام وهو مشترك بين البابين .

                                                                                                                فرعان :

                                                                                                                الأول لو سها عن السورة في النافلة ، قال صاحب الطراز : قال مالك : إن شاء زاد في النافلة على الفاتحة ، وإن شاء اقتصر عليها بخلاف الفريضة ; فإنهما محدودة فيها ؛ فكما كان من المحدودات كالتكبير وعدد الركعات استويا فيه ، وإلا فلا . الثاني لو سها عن السلام في النافلة قال : قال ابن القاسم : أحب إلي أن يعيد ، [ ص: 294 ] وإن لم يتعمد فسادها فلا تجب الإعادة ، وقال سحنون : أحب إلي أن يسجد متى ما ذكر ; لأن السجود ثبت عليه بالترك ولا نأمره بالسلام ; لأن الطول أوجب الخروج من الصلاة .

                                                                                                                القاعدة السابعة :

                                                                                                                أن الأصل في التكاليف أن تقع بالعلم ; لقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) . ولما تعذر في أكثر الصور أقام الشرع الظن مقامه لغلبة إصابته ، وندرة خطئه تقديما للمصلحة الغالبة على المفسدة النادرة ، وبقي الشك ملغى إجماعا ، فكل ما شككنا في وجوده من سبب أو شرط أو مانع استصحبنا عدمه إن كان معدوما قبل الشك ، أو شككنا في عدمه استصحبنا وجوده ، إن كان موجودا قبل الشك فعلى هذه القاعدة إذا شك في إكمال صلاته فقد شك في وجود السبب المبرئ للذمة ، فيستصحب عدمه ، ويلغى المشكوك فيه للحديث المتقدم ، وكذلك إن شك في طريان الحدث بعد الطهارة فقد حصل الشك في حصول الشرط حالة أداء العبادة فيستصحب عدم الشرط حتى يتطهر ، وإذا شك هل طلق أم لا ؟ فقد شك في طريان السبب الواقع ، فيستصحب عدمه فتثبت العصمة ، وإذا طلق وشك هل واحدة أو ثلاثا ؟ فقد شك في بقاء العصمة وهي شرط في الرجعة فلا تثبت الرجعة ، وعلى هذه القاعدة تتخرج هذه الفروع ، ولا يبقى فيها تناقض البتة . سؤالان : الأول مقتضى هذه القاعدة استصحاب وجود الطهارة ، لتقدمه على الشك فلم لا يستصحب ؟ الثاني إذا شك في الإكمال أكمل وسجد وقد ثبت السجود مع الشك في سببه الذي هو الزيادة أو النقص ، [ ص: 295 ] فقد اعتبر المشكوك ؟

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن الشك في الشرط مستلزم للشك في المشروط فيقع الشك في صدور السبب المبرئ للذمة من المكلف ، وهذا السبب كان معدوما فيستصحب عدمه ، وعن الثاني : أن الشك هاهنا هو السبب وهو مقطوع بوجوده ، وللشرع أن ينصب أي شيء شاء سببا وشرطا ومانعا .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                المعتبر عندنا في عدد الركعات اليقين دون الظن وعند ش لإمكان تحصيله ، وقال ح : إن لم يكن موسوسا وشك بطلت صلاته ، وإلا بنى على غالب ظنه ، وقال ابن حنبل : المنفرد يبني على اليقين ، والإمام على غالب الظن .

                                                                                                                القاعدة الثامنة :

                                                                                                                أن نية الصلاة إنما يتناولها على الوجه المشروع من الترتيب والنظام المخصوص فإن غير ذلك لا يصح القصد إلى إيقاعه قربة ; لكونه غير مشروع ، فعلى هذا يفتقر التلفيق إلى نية تخصه ، ولا تكفي صورة الفعل فلا يضم سجود الثانية إلى ركوع الأولى ، وهذا المشهور خلافا لـ ش وأشهب وابن الماجشون .

                                                                                                                القاعدة التاسعة :

                                                                                                                الإمام يحمل عن المأموم سجود السهو ; لقوله عليه السلام : الإمام ضامن . وضمانه ليس بالذمة لانعقاد الإجماع على أن صلاة زيد لا تنوب عن عمرو ، وإنما الضمان يحمل القراءة والسجود أو من التضمن فتكون صلاة الإمام [ ص: 296 ] متضمنة لصفات صلاة المأموم من فرض وأداء وقضاء وقراءة وسجود وهو مطلوب .

                                                                                                                القاعدة العاشرة :

                                                                                                                التقرب إلى الله تعالى بالصلاة المرقعة المجبورة إذا عرض فيها الشك ، أولى من الإعراض عن ترقيعها أو الشروع في غيرها ، والاقتصار عليها أيضا بعد الترقيع أولى من إعادتها فإنه منهاجه عليه السلام ، ومنهاج أصحابه والسلف الصالح بعدهم ، والخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع ، وقد قال عليه السلام : لا صلاتين في يوم . فلا ينبغي لأحد الاستظهار على النبي - عليه السلام - فلو كان في ذلك خير لنبه عليه وقرره في الشرع ، والله سبحانه وتعالى لا يتقرب إليه بمناسبات العقول ، وإنما يتقرب إليه بالشرع المنقول .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية