الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ بيان وقت الخيار ]

                                                                                                                                            فإذا رأى المشتري السلعة المبيعة ، فهل يثبت له خيار المجلس أو خيار العيب ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يثبت له خيار المجلس - وهو قول أبي إسحاق - لأن عنده بالرؤية تم العقد .

                                                                                                                                            فعلى هذا له الخيار في الفسخ على التراخي ، ما لم يفارق مجلسه ، سواء وجد السلعة ناقصة عما وصفت أم لا . وله أن يشترط في المجلس خيار الثلاث ، وتأجيل الثمن ، والزيادة فيه ، والنقصان منه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يثبت له بالرؤية خيار العيب - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة - لأن عنده أن بالبذل والقبول قد تم العقد . فعلى هذا إن وجدها على ما وصفت لم يكن له خيار ، وإن وجدها ناقصة ، كان له الخيار في الفسخ على الفور .

                                                                                                                                            [ ص: 23 ] ولا يجوز أن يشترط بعد الرؤية خيار الثلاث ، ولا تأجيل الثمن ، ولا الزيادة فيه والنقصان منه .

                                                                                                                                            فصل : فأما خيار البائع ، فلا يخلو حاله من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون بيعه عن رؤية ، أو عن صفة :

                                                                                                                                            فإن كان بيعه عن رؤية ، فهل له الخيار أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : له الخيار - وهو قول أبي إسحاق - لأن عنده أن بالرؤية يثبت خيار المجلس .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا خيار له - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة - لأنه يقول : إن العقد قد تم ، وبالرؤية يثبت خيار العيب .

                                                                                                                                            وإن كان بيعه عن صفة ، وجوزناه على أحد الوجهين ، فلا يخلو حاله عند رؤية المبيع من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يجده زائدا على ما وصف له ، أو غير زائد .

                                                                                                                                            فإن وجده زائدا عما وصف له ، فله الخيار في الفسخ ، لا يختلف ، كالمشتري إذا رآه ناقصا . وهل يكون خياره على الفور أو على التراخي ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : على التراخي ما لم يفارق مجلسه ، وهو قول أبي إسحاق .

                                                                                                                                            والثاني : على الفور ، وهو قول أبي علي . فإن لم يجده زائدا ، فهل له الخيار أم لا ؟

                                                                                                                                            على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي إسحاق : له الخيار : لأن عنده أن العقد يتم بالرؤية ، ويثبت بعدها خيار المجلس .

                                                                                                                                            والثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : لا خيار له : لأن عنده أن العقد قد تم بالبذل والقبول ، ويثبت بالرؤية خيار العيب . فهذا الكلام في بيع العين الغائبة على خيار الرؤية ، وما يتعلق عليه من أحكام .

                                                                                                                                            فصل : فأما بيع العين الغائبة بغير شرط خيار الرؤية ، فباطل لا يختلف فيه المذهب : لأنه بيع ناجز على عين غائبة ، وهو أصل الغرر .

                                                                                                                                            وأما بيع العين الحاضرة على شرط خيار الرؤية ، كثوب في سفط ، أو مطوي ، يبيعه موصوفا من غير رؤية ، بشرط خيار الرؤية . فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كبيع العين الغائبة على قولين : لأن الحاضر يساوي الغائب في العلم به إذا وصف ، ويزيد عليه في زوال الغرر بتعجيل القبض .

                                                                                                                                            [ ص: 24 ]

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يجوز قولا واحدا ، بخلاف العين الغائبة ، وهو قول أكثر أصحابنا ، وإليه أشار أبو إسحاق المروزي ، وابن أبي هريرة : لأن الحاضر مقدور على رؤيته ، فارتفعت الضرورة في جواز بيعه على خيار الرؤية ، والغائب لما لم يقدر على رؤيته دعت الضرورة إلى جواز بيعه على خيار الرؤية .

                                                                                                                                            فأما بيع السلجم ، والجزر ، والبصل ، والفجل ، في الأرض قبل قلعه على شرط خيار الرؤية .

                                                                                                                                            فقد كان بعض أصحابنا يخرج جواز بيعه على قولين كالعين الغائبة .

                                                                                                                                            وقال سائر أصحابنا : إن بيع ذلك باطل قولا واحدا .

                                                                                                                                            والفرق بين هذا وبين العين الغائبة من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن وصف الغائب ممكن : لتقدم الرؤية له ، ووصف هذا في الأرض قبل قلعه غير ممكن .

                                                                                                                                            والثاني : أن المشتري إذا فسخ بيع الغائب ، أمكن رده إلى حاله ، وإذا فسخ بيع هذا المقلوع من الأرض ، لم يمكن رده إلى حاله .

                                                                                                                                            فأما بيع التمر المكنون في قواصره وجلاله :

                                                                                                                                            فقد كان بعض أصحابنا يخرج بيعه على قولين كالغائب .

                                                                                                                                            وقال سائر أصحابنا البصريين : يجوز بيعه في قواصره ، قولا واحدا إذا شاهد رأس كل قوصرة : لأن في كسر كل قوصرة لمشاهدة ما فيها مشقة وفسادا ، وقد أجمع عليه علماء الأعصار بالبصرة .

                                                                                                                                            وأما ما سوى التمر من الأمتعة التي في أوعيتها ، فلا يخلو حالها من أحد أمرين : إما أن يكون ذائبا ، أو غير ذائب .

                                                                                                                                            فإن كان ذائبا كالزيت والعسل ، فإذا شاهد يسيرا مما في الوعاء أجزأه عن مشاهدة جميعه ، وجاز بيعه قولا واحدا ، كالصبرة من الطعام .

                                                                                                                                            وإن كان غير ذائب فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون مما تتفاوت أجزاؤه ، ويباين بعضه بعضا ، كالثياب ، فلا يجوز بيعها إلا بمشاهدة جميعها ، إلا أن يبيعها من غير مشاهدة بشرط خيار الرؤية ، فيكون في حكم بيع العين الغائبة أو الحاضرة على خيار الرؤية .

                                                                                                                                            والثاني : إن كان مما تتماثل أجزاؤه في الغالب ، أو تتقارب كالدقيق والقطن .

                                                                                                                                            فقد اختلف أصحابنا فيه ، فقال بعضهم : لا يصح بيعه إلا برؤية جميعه كالثياب .

                                                                                                                                            وقال آخرون : يجوز بيعه برؤية بعضه كالذائب .

                                                                                                                                            [ ص: 25 ] فصل : قال الشافعي رحمه الله في كتاب الصرف : ولا يجوز بيع خيار الرؤية مؤجلا ولا بصفة .

                                                                                                                                            فأما قوله : مؤجلا : يعني به تأجيل تسليم المبيع ، كقوله بعتك دارا بالبصرة ، أو بغداد ، على أن أسلمها إليك بعد شهر ، فهذا باطل ، لأنه عقد على عين بشرط تأخير القبض ، وذلك غير جائز .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقبض الغائب لا بد أن يكون مؤخرا .

                                                                                                                                            قيل : هو مؤخر بغير أجل محدود ، فجاز ، وليس كذلك مع الشرط ، لأنه قد يقدر على التسليم قبل الأجل ، فيؤخره لأجل الشرط ، وقد لا يقدر عليه عند الأجل ، فيلزم تسليم ما لا يقدر عليه بالشرط .

                                                                                                                                            وأما قوله : ولا بصفة . فقد اختلف أصحابنا في تأويلها على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو تأويل البصريين : أن يصف العين الغائبة بجميع صفاتها ، فلا يجوز : لأنها تصير على قولهم في معنى السلم في الأعيان .

                                                                                                                                            والثاني : تأويل البغداديين : أن يجعل بيع العين الغائبة مضمونا في ذمته ، فلا يجوز كالسلم في الأعيان .

                                                                                                                                            قال الشافعي : ويجوز بيع العين الغائبة بثمن حال ومؤجل : لأن بيوع الأعيان يصح تأجيل الثمن فيها ، سواء كانت العين حاضرة أو غائبة ، لأنه بيع عين بدين ، وليس كالسلم المضمون في الذمم ، فلا يصح بيعه بمؤجل : لأنه يصير في معنى بيع الدين بالدين . فهذا جملة الكلام في بيع خيار الرؤية وما يتفرع عليه ويتصل به .

                                                                                                                                            فصل : فأما بيع العين الغائبة مع تقدم الرؤية ، وهو أن يكون البائع والمشتري قد شاهدا السلعة ثم غابا عنها ، وعقدا البيع عليها . فلا يخلو حال الرؤية من أحد أمرين : إما أن تكون قريبة المدة ، أو بعيدتها . فإن كانت المدة قريبة وليس لها حد مقدر فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن البيع جائز .

                                                                                                                                            وقال أبو القاسم الأنماطي من أصحابه : البيع باطل ، حتى تكون الرؤية مقارنة للعقد .

                                                                                                                                            وقال أبو سعيد الإصطخري : قلت لمن يناظر عن الأنماطي : ما يقول صاحبك في الدار إذا رآها المشتري ، وخرج إلى الباب ، واشتراها ؟ قال : لا يجوز . قلت : فإن رأى خاتما وأخذه في كفه ثم اشتراه ؟ قال : لا يجوز قلت : فإن رأى أرضا وخرج منها إلى جانبها ثم اشتراها ؟ قال : فتوقف : لأنه لو قال : يجوز لناقض مذهبه ، ولو قال : لا يجوز ، لما أمكن ابتياع الأرض . فهذا قول الأنماطي ، وقل من تابعه على ذلك من الفقهاء .

                                                                                                                                            [ ص: 26 ] واستدل على ذلك :

                                                                                                                                            بأن الرؤية لما كانت شرطا في بيوع الأعيان ، وجب أن تقترن بالعقد ، كالصفة في بيع السلم .

                                                                                                                                            وهذا المذهب شاذ الاعتقاد واضح الفساد : لأن الرؤية إنما أريدت ليصير المبيع معلوما ، ولا يكون مجهولا ، وهذا المعنى موجود في الرؤية المتقدمة على العقد ، كوجوده في الرؤية المقترنة بالعقد ، وليس كذلك الصفة . فهذا حكم الرؤية المتقدمة إذا كانت المدة قريبة .

                                                                                                                                            فأما إذا كانت مدة الرؤية بعيدة ، فلا يخلو حال المشتري من أحد أمرين : إما أن يكون ذاكرا لأوصاف المبيع أو غير ذاكر : فإن كان غير ذاكر لأوصاف المبيع لبعد العهد وطول المدة ، فهذا في حكم من لم يره ، فإن ابتاعه على غير خيار الرؤية ، لم يجز .

                                                                                                                                            وإن ابتاعه بخيار الرؤية ، كان على قولين ، وإن كان ذاكرا لأوصاف المبيع ، لم تخل حاله من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون مما لا يتغير في العادة ، كالحديد ، والنحاس ، فبيعه جائز ، فإن رأى فيه بعد العقد عيبا ، فله الخيار .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون مما يتغير فلا يبقى مع طول المدة ، كالفواكه الرطبة ، والطبائخ .

                                                                                                                                            فينظر في حاله حين العقد : فإن كان قد مضى عليه من المدة لا يبقى فيها كان بيعه باطلا ، وإن كان قد مضى عليه من المدة ما يعلم بقاؤه فيها ، فبيعه جائز .

                                                                                                                                            وإن كان قد مضى من المدة ما يجوز أن يبقى فيها ، ويجوز أن يتلف ، فبيعه باطل : لأنه عقد على عين لا يعلم بقاؤها .

                                                                                                                                            وفيه وجه آخر : أن بيعه جائز : لأن الأصل بقاء العين ما لم يعلم تلفها .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون مما يجوز أن يتغير ويجوز أن لا يتغير كالحيوان ، ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز بيعه بالرؤية المتقدمة ، وقد نص عليه في البيوع : لأن الأصل سلامته وبقاؤه على حاله ، وبه قال أكثر أصحابنا .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن بيعه لا يجوز ، وقد أشار إليه الشافعي في كتاب الغصب واختاره المزني : لأنه متردد بين سلامة وعطب .

                                                                                                                                            والقول الأول أصح ، وعليه يكون التفريع ، فإذا تبايعا بالرؤية المتقدمة ، ثم رآه المشتري بعد البيع على ما كان رآه من قبل ، فلا خيار له ، وإن رآه متغيرا ، فله الخيار .

                                                                                                                                            [ ص: 27 ] فلو اختلفا ، فقال المشتري : وجدته متغيرا ، وقال البائع : بل هو على ما كان عليه من قبل .

                                                                                                                                            قال الشافعي في كتاب الصرف : القول قول المشتري مع يمينه : لأنه يريد انتزاع الثمن من يده ، فلا ينتزع منه إلا بقوله . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية