الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إلي منه ، ورأيتهم بالمدينة يقومون لتسع وثلاثين ، وأحب إلي عشرون ، لأنه روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وكذلك يقومون بمكة ويوترون بثلاثة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الأصل في قيام شهر رمضان ، وهي صلاة التراويح ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس في أول ليلة من شهر رمضان فجمعهم وصلى بهم ، ثم خرج إليهم في الليلة الثانية ، فجمعهم ، وصلى بهم ، فلما كان الليلة الثالثة انتظروه فلم يخرج إليهم ، فصلوا متفرقين ، فلما أصبحوا قال صلى الله عليه وسلم : " قد علمت باجتماعكم ، وإنما تأخرت لأني خفت أن تفرض عليكم وكان أبي بن كعب بعد ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وأول خلافة عمر ، رضي الله عنهما ، يجمع الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي بهم العشر الأول ، والعشر الثاني ، ويتخلى لنفسه في العشر الثالث ، إلى أن قررها عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وجمع الناس عليها ، وكان السبب فيه ما روي أن الناس كانوا يصلون في المسجد ، فإذا [ ص: 291 ] سمعوا قراءة طيبة تبعوا ، فقال عمر ، رضي الله عنه ، جعلتم القرآن أغاني ، فجمعهم إلى أبي ، فصارت سنة قائمة ، ثم عمل بها عثمان ، وعلي ، رضي الله عنهما ، والأئمة في سائر الأعصار ، وهي من أحسن سنة سنها إمام .

                                                                                                                                            فإذا تقرر هذا وثبت ، فالذي أختار عشرون ركعة : خمس ترويحات ، كل ترويحة شفعان ، كل شفع ركعتان بسلام ، ثم يوتر بثلاث : لأن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب ، فكان يصلي بهم عشرين ركعة جرى به العمل وعليه الناس بمكة .

                                                                                                                                            قال الشافعي : " ورأيتهم بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة بسبع ترويحات ، ويوترون بثلاث " ، وإنما خالفوا أهل مكة في ذلك ، وزادوا في عدد ركعاتهم : لأن أهل مكة كانوا إذا صلوا ترويحة طافوا سبعا إلا الترويحة الخامسة ، فإنهم يوترون بعدها ، ولا يطوفون فيحصل لهم خمس ترويحات ، وأربع طوافات ، فلما لم يمكن أهل المدينة مساواتهم في الطواف الأربع ، وقد ساووهم في الترويحات الخمس جعلوا مكان أربع طوافات أربع ترويحات زوائد ، فصار لهم تسع ترويحات ، تكون ستا وثلاثين ركعة لتكون صلاتهم مساوية لصلاة أهل مكة وطوافهم ، وقيل : بل كان السبب فيه أن عبد الملك بن مروان كان له تسع أولاد ، فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة ، فقدم كل واحد منهم ، فصلى ترويحة ، فصارت سنة ، وقيل : بل كان السبب فيه أن تسع قبائل حول المدينة سارعوا إلى الصلاة ، واقتتلوا ، فقدم كل قبيلة رجلا ، فصلى بهم ترويحة ، ثم صارت سنة ، والأول أصح .

                                                                                                                                            فأما قول الشافعي : " وقيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إلي منه " ففيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أراد بذلك أن قيام شهر رمضان وإن كان في جماعة ففي النوافل التي تفعل فرادى ما هو أوكد منه ، وذلك الوتر ، وركعتا الفجر ، وهذا قول أبي العباس بن سريج .

                                                                                                                                            والتأويل الثاني : أن صلاة المنفرد في قيام شهر رمضان أفضل إذا لم يكن في انفراده تعطيل الجماعة ، فهو قول أكثر أصحابنا ، وإنما كان ذلك كذلك ، لرواية زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلوا في بيوتكم ، فإن صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة .

                                                                                                                                            فأما إن تعطلت الجماعة بانفراده ، فصلاته جماعة أفضل لما في تعطيلها من إطفاء نور المساجد ، وترك السنة المأثورة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية