الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 316 ] باب اختلاف نية الإمام والمأموم وغير ذلك

                                                                                                                                            قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وإذا صلى الإمام بقوم الظهر في وقت العصر وجاء قوم فصلوا خلفه ينوون العصر أجزأتهم الصلاة جميعا ، وقد أدى كل فرضه ، وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل أن يصلي معه المكتوبة ، ثم يصلي بقومه هي له نافلة ولهم مكتوبة ، وقد كان عطاء يصلي مع الإمام القنوت ، ثم يعتد بها من العتمة ، فإذا سلم الإمام قام فبنى ركعتين من العتمة . ( قال المزني ) : وإذا جاز أن يأتم المصلي نافلة خلف المصلي فريضة فكذلك المصلي فريضة خلف المصلي نافلة وفريضة ، وبالله التوفيق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : قد اختلف الفقهاء في اختلاف نية الإمام والمأموم ومذاهب العلماء فيها على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي يجوز للمتنفل أن يأتم بالمفترض ، والمفترض بالمتنفل ، والمفترض بالمفترض ، في فرضين مثلين ، أو مختلفين ، مثل الظهر خلف العصر ، أو العصر خلف الظهر ، وهذا أوسع المذاهب ، وهو إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، وبه قال من التابعين عطاء ، وطاوس ، ومن الفقهاء الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : هو قول مالك ، والزهري ، وشعبة ، لا يجوز أن يختلف نية الإمام والمأموم بحال لا في فرض ولا في نفل ، فلا يأتم المفترض بالمتنفل ، ولا المتنفل بالمفترض ، ولا المفترض بالمفترض في فرضين مختلفين ، حتى يكونا مثلين في فرض ، أو نفل ، وهذا أضيق المذاهب .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : وهو قول أبي حنيفة ، يجوز أن يأتم المتنفل بالمفترض ، ولا يجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل ، ولا المفترض بالمفترض في فرضين مختلفين ، إلا أن يصلي خلف مفترض ، واستدل من منع من اختلاف نية الإمام والمأموم على تباين مذاهبهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فكان أمره بالائتمام على عمومه فيما ظهر من أفعاله أو خفي من نيته ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا على أئمتكم فتختلف قلوبكم وفي اختلاف النية اختلاف القلوب ، قالوا : ولأنها صلاة لا يجوز أداؤها بنية صلاة الإمام فوجب أن لا يجوز الاقتداء فيها بالإمام كالمصلي الجمعة خلف المصلي الظهر .

                                                                                                                                            [ ص: 317 ] قالوا : ولأنه قد خالف إمامه في مفروض صلاته فوجب أن يكون ذلك قادحا فيها ، قياسا على مخالفيه في ركوعه وسجوده .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما قلناه ما روي عن الشافعي ، عن إسماعيل بن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بطن النخل للإصلاح بين بني سليم ، ففرق أصحابه فريقين ، فصلى بطائفة ركعتين وسلم ، وصلى بالطائفة الثانية ركعتين وسلم وقيل : إنها كانت صلاة الظهر ، وقيل صلاة العصر .

                                                                                                                                            وروي أنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة المغرب ثلاث ركعات وسلم ، وصلى بالطائفة الثانية ثلاث ركعات ، وسلم ، ومعلوم أن فرضه صلى الله عليه وسلم إحدى الصلاتين والأخرى نافلة ، وكلاهما للمأمومين فريضة ، فإن قيل : يجوز أن يكون في هذا الوقت الذي كانوا يصلون الفرض في كل يوم مرتين .

                                                                                                                                            قلنا : إعادة الفرض غير معروف ، ولا مروي ، لأن الله تعالى فرض على خلقه خمسين صلاة ، أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ردها بشفاعته في تلك الليلة إلى خمس ، ثم استقر الفرض عليها ، ولم يفرضها عشرا ، ولا أمر بإعادة فرض منها بعد صحة أدائها ، ألا ترى إلى ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من الوادي وصلى الصبح قيل له : أتقضي الصبح في وقتها من الغد ؟ قال : " إن الله تعالى نهاكم عن الربا ، ثم يأمركم به .

                                                                                                                                            وروى الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بقومه ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة ، فصلى معه ، ورجع إلى قومه ، فصلاها بهم ، واستفتح بسورة البقرة فخرج رجل من صلاته ، فأتم لنفسه ، فلما قيل له : نافقت ؟ فقال : آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله . فأتاه ، فقال : إن معاذا يصلي معك ، ثم يصلي بنا ، وإنك أخرت العشاء ، فصلى معك ثم صلى بنا ، واستفتح بسورة البقرة ونحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أفتان أنت يا معاذ ؟ أين أنت من سورة سبح اسم ربك الأعلى : والليل إذا يغشى .

                                                                                                                                            فوجه الدلالة من هذا أن معاذا كان يؤدي فرضه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يصليها بقومه ، فتكون لهم فريضة ، وله نافلة .

                                                                                                                                            فإن قال أصحاب أبي حنيفة : كانت صلاته خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة ، وبقومه فريضة ؟ قيل : هذا لا يصح لثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            [ ص: 318 ] أحدها : أن جابر بن عبد الله ، وهو راوي الحديث يقول : كان معاذ بن جبل يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ، ثم ينصرف فيصلي بقومه ، هي لهم فريضة وله نافلة " وجابر لا يقول هذا إلا عن علم .

                                                                                                                                            والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فكيف يجوز لمعاذ مع سماع هذا أن يصلي النافلة عند قيام المكتوبة .

                                                                                                                                            والثالث : أن معاذا كان يعلم أن فرضه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من فرضه إماما بقومه ، وهو لا يختار لنفسه إلا أفضل الحالين ، ولا يجوز أن يظن به اختيار أنقصهما .

                                                                                                                                            وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله عز وجل ، قالت بنو سلمة : هذا أقرؤنا يا رسول الله يعنون عمرو بن سلمة ، وكان صغيرا لم يبلغ .

                                                                                                                                            فقال صلى الله عليه وسلم : يؤمكم معاذ ، إن صلاة غير البالغ نافلة له
                                                                                                                                            فقد جوز للمفترضين أن يصلوا خلفه ، ولأن ما ذكرناه إجماع الصحابة ، بدليل ما روي أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، صلى بالناس ، فسمع من خلفه صوتا ، فقال : عزمت على من كان منه هذا إلا قام فتوضأ ، وأعاد صلاته ، فلم يقم أحد ، ثم أعاد الثانية فلم يقم أحد ، فقال له في الثالثة العباس بن عبد المطلب ، وقيل : بل قال له جرير بن عبد الله : لو عزمت علينا كلنا فقمنا ، فقال عمر رضي الله عنه : لقد كنت سيدا في الجاهلية وسيدا في الإسلام ، ثم قال عمر ، رضي الله عنه : قد عزمت عليكم كلكم وأنا معكم ، ثم مضوا فتوضئوا ، وعادوا فصلى بهم عمر ، رضي الله عنه ، فكانت صلاة عمر رضي الله عنه نافلة ، وصلاة من خرجت منه الريح فريضة ، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك ، فدل على إجماعهم ، ولأنهما صلاتان متفقتان في الأفعال الظاهرة تؤدى جماعة ، وفرادى ، فجاز أن تؤدى إحداهما خلف الأخرى .

                                                                                                                                            أصله : مع أبي حنيفة صلاة المتنفل خلف المفترض .

                                                                                                                                            وقولنا : متفقتان في الأفعال الظاهرة ، احترازا من المفترض يصلي خلف من يصلي " الكسوف " ، وقولنا : فرادى ، احترازا من الجمعة خلف الظهر ، ولأن الجماعة لما اشترطت للفضيلة لا للفريضة جاز أن يختلفا في النية ، كالنوافل المختلفة ، ولأنه لو كانت المساواة في النية شرطا معتبرا لمنع المتنفل من الصلاة خلف المفترض ، لاختلافهما في النية ، وفي ذلك دليل على أن المساواة في النية غير معتبرة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به .

                                                                                                                                            [ ص: 319 ] قلنا : المراد به الاقتداء بما يظهر من أفعاله دون نيته ، وما خفي من أفعاله لأن في الابتداء بها تكليف ما لا يطاق وذلك غير مستطاع ، فلم يصرف الخبر إلا إلى أمكن تكليفه من أفعاله الظاهرة ، ألا تراه قال : فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا .

                                                                                                                                            وكذلك الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا على أئمتكم .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الجمعة ، فالمعنى في الجمعة : أنه لما كان من شرطها الإمام كان من شرطها أن يوافق نية الإمام ، ولما لم يكن الإمام شرطا في سائر الفرائض لم تكن موافقة الإمام في النية شرطا فيها ، وأما قياسهم على اختلافها في أفعال الصلاة من الركوع والسجود ، فإن كان المستدل به حنفيا : انتقض عليه بالمتنفل خلف المفترض ، وإن كان مالكيا : قيل قياسك هذا يعترض عليه بالسنة الثانية والإجماع المنعقد ، وينكسر بصلاة المقيم خلف المسافر قد اختلفت نياتهما ، وتفاضلت أفعالهما . وقد أجمع المسلمون وأنت معهم على جوازها .

                                                                                                                                            ثم يقال لأبي حنيفة قد ناقضت أصلك في ثلاثة مواضع .

                                                                                                                                            أحدها : أنك منعت من اختلاف الفرضين وأجزت النذر خلف المفترض .

                                                                                                                                            وإن قال : صلاة النذر واجبة ليست فرضا قيل : لا فرق بينهما عندنا ، ثم في المنع من اختلاف الفرضين هو أن نية المأموم تضمنت زيادة لم تتضمنها نية إمامه ، وذلك موجود في المنذورة .

                                                                                                                                            والثاني : أنك قلت إذا سجد الإمام بعد صلاة الظهر لسهو وقع فيها ، ثم أدركه مؤتم ، فأحرم خلفه بصلاة الظهر أن ذلك جائز ، وليس سجود السهو بصلاة الظهر ، وفي هذا نقض لأصلك ، فإن قال : سجود السهو عندي واجب ، فقد صلى مفترض خلف مفترض .

                                                                                                                                            [ ص: 320 ] قيل : له سجود السهو وإن كان واجبا عندي فلا نقول : إنه فرض ، ولو جعلته فرضا لم يكن ظهرا ، وأنت تمنع من اختلاف الفرضين .

                                                                                                                                            والثالث : إن قلت لو صلى بهم يوم الجمعة ظهرا صحت صلاتهم فلو سها الإمام فصلاها كانت فرضه ، وكان ما تقدم من صلاته بالجماعة نافلة ، فأجزت صلاة الفريضة خلف النافلة .

                                                                                                                                            فإن قيل : كانت لهم فرضا حين أمهم ، وإنما صارت نافلة لفعله الجمعة فقد سقط الفرض بالفرض .

                                                                                                                                            قيل : هذا غلط ، لأن الفرض إذا صح لم ينقلب نفلا ، ولو جاز لك أن تقول هذا جاز لنا أن نقول : إن فرضهم سقط حين صارت صلاتهم نافلة ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية