الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 333 ] [ القول في إمامة الكافر ]

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإن ائتم بكافر ، ثم علم أعاد ، ولم يكن هذا إسلاما منه وعزر ، ولأن الكافر لا يكون إماما بحال ، والمؤمن يكون إماما في الأحوال الظاهرة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : هذا صحيح .

                                                                                                                                            إذا صلى الكافر إماما ، أو مأموما ، أو منفردا في مسجد ، أو غيره لم يكن ذلك إسلاما منه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن صلى جماعة كان ذلك إسلاما منه إماما كان أو مأموما ، وإن صلى منفردا فإن كان في مسجد كان ذلك إسلاما منه في إحدى الروايتين عنه ، وإن كان في غير مسجد لم يكن ذلك إسلاما منه ، واستدل بقوله تعالى : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين فجعل عمارة المسجد دلالة على الإيمان ، وليست عمارة المسجد بنيانه ، وإنما عمارته بإقامة الصلاة فيه .

                                                                                                                                            وبرواية أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من استقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا وروي " فهو مسلم له ما لنا ، وعليه ما علينا " ، والمعنى فيهما واحد ، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من رأيتموه ملازم المسجد فاشهدوا له بالإيمان ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : ألا إني نهيت عن قتل المصلين فلما حقن دمه بالصلاة فيجب أن يحكم بإسلامه ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : بين الكفر والإيمان ترك الصلاة قالوا : ولأنها عبادة يختص بها البيت أتى بها على كمالها فوجب أن يحكم بإسلامه قياسا على الأذان لأن من سنته استقبال القبلة ، وقولهم أتى بها على كمالها احترازا من صلاة المنفرد ، لأن الجماعة من كمال الصلاة ، ولا يدخل على قياسهم الحج : لأنهم يجعلونه مسلما ويستدلون به على تقدم إسلامه ، وكذا الصلاة يستدلون بها على تقدم إسلامه .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ التوبة : 5 ] .

                                                                                                                                            فرفع حكم الشرك واستباحة القتل بالتوبة ، والصلاة معا ، فاقتضى أن يكون فعل الصلاة وحدها باقيا على حكم الشرك حتى توجد التوبة ، وهي الشهادتين .

                                                                                                                                            [ ص: 334 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإن قالوها عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله تعالى فجعل الشهادتين علما في تحريم قتالهم وحقن دمائهم دون الصلاة ، وروي أن رجلا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اعدل يا محمد فإنك لم تعدل ، فقال : " إذا لم أعدل أنا فمن يعدل ؟ وبعث أبا بكر ، رضي الله عنه ، وراءه ليقتله ، فوجده يصلي فرجع ، وقال : ما قتلته لأني رأيته يصلي وقد نهيت عن قتل المصلين ، فبعث عمر ، رضي الله عنه ، وراءه ليقتله ، فرجع كذلك ، فبعث بعلي وراءه وقال : إنك لن تدركه . فذهب علي رضي الله عنه ، فلم يجده .

                                                                                                                                            فموضع الدليل هو أن الرجل لو كان مسلما بالصلاة ، وقد أخبره أبو بكر ، رضي الله عنه ، بصلاته لم يأمر عمر ، وعليا ، رضي الله عنهما ، بقتله .

                                                                                                                                            فإن قيل : لعله صلى منفردا فلم يكن ذلك إسلاما منه .

                                                                                                                                            قيل : ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال عن كيفية صلاته دليل على اتفاق الحكم مع اختلاف الأحوال ، ولأن كل ما لا يكون مسلما بفعله منفردا لا يكون مسلما بفعله جامعا كالمصلي في السفر ، ولأن كل فعل لا يكون كافرا بتركه فلا يحكم بإسلامه عند فعله ، أصله إذا صلى منفردا ، ولأن كل فعل لو فعله منفردا لم يحكم بإسلامه يجب إذا فعله في جماعة ألا يحكم بإسلامه كالجهاد ، ولأنه فرع من فروع الدين فوجب أن لا يستدل به على إسلامه كالزكاة والصيام .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن احتجاجهم بقوله سبحانه : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر [ التوبة : 18 ] فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المراد بالعمارة البناء دون إقامة الصلاة اعتبارا بحقيقة الاسم وعرفه ، كيف وقد قال تعالى فيها : وأقام الصلاة وآتى الزكاة [ التوبة : 18 ] . فلو كان المراد بالعمارة إقامة الصلاة لم يعد ذكر الإقامة ثانية .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن لو سلمنا لهم أن المراد بها إقامة الصلاة لم يكن فيه حجة ، لأنه لم يجعل من عمر مساجد الله مؤمنا بالله ، وإنما قال : المؤمن من يعمر مساجد الله ، فجعل الإيمان دلالة على العمارة ودلالة على الإيمان .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " من استقبل قبلتنا . . . الحديث " فنحن نقول بموجبه ، وإن صلى صلاتنا كان له ما لنا وعليه ما علينا ، غير أن الكافر لا صلاة له : لأن الصلاة لا تصح إلا بعد تقديم الإيمان ، وكذلك الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني نهيت عن قتل المصلين " .

                                                                                                                                            [ ص: 335 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم : فمن رأيتموه يلازم المسجد فاشهدوا له بالإيمان فمتروك الظاهر باتفاق ، لأنه بملازمة المسجد لا يكون مؤمنا .

                                                                                                                                            فإن قالوا : أراد به إذا لازم المسجد مصليا .

                                                                                                                                            قيل لهم : إن أراد به إذا لازم المسجد متشهدا بالشهادتين .

                                                                                                                                            وأما قوله صلى الله عليه وسلم : بين الكفر والإيمان ترك الصلاة فالمراد به تثبيت حكم تاركها دون فاعلها ، ألا تراه قال بعد ذلك : " فمن تركها فقد كفر " على أن الصلاة لا تصح من الكافر .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الأذان فنبين أولا مذهبنا فيه ، ثم نتكلم عليهم ، فإذا أتى الكافر بالشهادتين وإن قال على وجه الحكاية فلا يختلف أصحابنا أنه لا يحكم بإسلامه ، مثل أن يقول قالوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أو قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإن قال ابتداء لا على سبيل الحكاية ، كأنه قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فقد اختلف أصحابنا :

                                                                                                                                            فقال بعضهم : لا يكون مسلما حتى يأتي رجلا مسلما بنية الإسلام ، ويأتي بالشهادتين قاصدا بإتيانه إظهار الإسلام ، وأما على غير هذا الوجه فلا يحكم بإسلامه كما لو قال حاكيا . قال أبو إسحاق وهو الصحيح وعليه المعول في المذهب : أنه يكون مسلما إذا أتى بالشهادتين ، إما في صلاة أو أذان ، بقوله صلى الله عليه وسلم حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فعلى هذا المذهب يصير الأذان أصلا لهم ، والكلام عليهم أن يقال : قوله : عبادة يختص بالبيت أن لا يسلم في الأذان ، لأنه يصير مسلما بالشهادتين في الأذان لا بالأذان ، والإتيان بالشهادتين لا يختص بالبيت ، بل يجوز مستقبلا للبيت ومستدبرا ، وقولهم : " أتى بكماله " ، لا تأثير له في الأصل ، وهو الأذان ، لأنه إذا أتى بالشهادتين في الأذان صار مسلما بالإجماع ، وإن لم يكمل الأذان ، وإذا سقطت هذه الصفة لعدم تأثيرها انتقضت العلة بالمصلي منفردا ، على أن تعليق هذا الحكم على هذه العلة لا يمكن .

                                                                                                                                            لأنهم إن قالوا فوجب أن يكون مسلما لم يصح في الصلاة : لأنه يستدل بها على إسلامه عندهم .

                                                                                                                                            وإن قالوا فوجب أن يستدل بها على إسلامه لم يصح في الأصل ، لأنه بالشهادتين في الأذان يصير مسلما ، على أن المعنى في الشهادتين إنما صار بها مسلما : لأنه لو أتى به منفردا كان مسلما ، ولما تقرر أن الصلاة لما أتى بها منفردا لم يحكم بإسلامه ، على أنها لا تدل على إسلامه ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية