الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ) . [ ص: 435 ]

روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ، أتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور . فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان ، فقال : ( يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ) ، وذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي ، فندم حين لا ينفعه ، فأنزل الله خبره .

( أن تقول ) : مفعول من أجله ، فقدره ابن عطية أي : أنيبوا من أجل أن تقول .

وقال الزمخشري : كراهة أن تقول ، والحوفي : أنذرناكم مخافة أن تقول ، ونكر نفس ؛ لأنه أريد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو أريد الكثير ، كما قال الأعشى :


ورب نفيع لو هتفت لنحوه أتاني كريم ينقض الرأس مغضبا



يريد أفواجا من الكرام ينصرونه ، لا كريما واحدا ; أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر ، أو بعذاب عظيم .

قال هذه المحتملات الزمخشري ، والظاهر الأول . وقرأ الجمهور : ( يا حسرتا ) ، بإبدال ياء المتكلم ألفا ، وأبو جعفر : ( يا حسرتا ) بياء الإضافة ، وعنه ( يا حسرتي ) بالألف والياء جمعا بين العوض والمعوض ، والياء مفتوحة أو ساكنة .

وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه ( كتاب اللوامح ) : ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك ؛ لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد ، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة ، لكثرة حسراتهم يومئذ ; أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخول النار ، لكان مذهبا ، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب . انتهى .

وقرأ ابن كثير في الوقف ( يا حسرتاه ) ، بهاء السكت . قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل : هذا وقتك فاحضري .

والجنب : الجانب ، ومستحيل على الله الجارحة ، فإضافة الجنب إليه مجاز . قال مجاهد ، والسدي : في أمر الله . وقال الضحاك : في ذكره ، يعني القرآن والعمل به . وقيل : في جهة طاعته ، والجنب : الجهة ، وقال الشاعر :


أفي جنب تكنى قطعتني ملامة     سليمى لقد كانت ملامتها ثناء



وقال الراجز :


الناس جنب والأمير جنب



ويقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ; وفلان لين الجنب والجانب . ثم قالوا : فرط في جنبه ، يريدون حقه . قال سابق البربري :


أما تتقين الله في جنب عاشق     له كبد حرى عليك تقطع



وهذا من باب الكناية ؛ لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه . ألا ترى إلى قوله :


إن السماحة والمروءة والندى     في قبة ضربت على ابن الحشرج



ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك ، وكذلك فعلت هذا من جهتك . وما في ( ما فرطت ) مصدرية ، أي : على تفريطي في طاعة الله .

( وإن كنت لمن الساخرين ) ، قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها . وقال الزمخشري : ومحل وإن كنت النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي : فرطت في حال سخريتي . انتهى .

ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا ، لا حال .

( أو تقول لو أن الله هداني ) أي : خلق في الهداية بالإلجاء ، وهو خارج عن الحكمة ، أو بالإلطاف ، ولم يكن من أهلها فيلطف به ، أو بالوحي ، فقد كان ، ولكنه أعرض ، ولم يتبعه حتى يهتدي . وإنما يقول هذا تحيرا في أمره ، وتعللا بما يجدي عليه . كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين [ ص: 436 ]

ونحوه : لو هدانا الله لهديناكم . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وانتصب ( فأكون ) على جواب التمني الدال عليه لو ، أو على ( كرة ) ، إذ هو مصدر ، فيكون مثل قوله :


فما لك منها غير ذكرى وحسرة     وتسأل عن ركبانها أين يمموا



وقول الآخر :


للبس عباءة وتقر عيني     أحب إلي من لبس الشفوف



والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني ، كانت ( أن ) واجبة الإضمار ، وكان الكون مترتبا على حصول المتمنى ، لا متمنى . وإذا كانت للعطف على ( كرة ) ، جاز إظهار ( أن ) وإضمارها ، وكان الكون متمنى .

( بلى ) : هو حرف جواب لمنفي ، أو لداخل عليه همزة التقرير . ولما كان قوله : ( لو أن الله هداني ) وجوابه متضمنا نفي الهداية ، كأنه قال : ما هداني الله ، فقيل له : ( بلى قد جاءتك آياتي ) مرشدة لك ، فكذبت . وقال الزمخشري : رد من الله عليه ، ومعناه : بلى قد هديت بالوحي . انتهى . جريا على قواعد المعتزلة .

وقال ابن عطية : وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وقوله : ( بلى ) جواب لنفي مقدر ، كأن النفس قالت : فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر ، أو قالت : فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ، ونحو هذا . انتهى .

وليس حق بلى ما ذكر ، بل حقها أن تكون جواب نفي . ثم حمل التقرير على النفي ، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب ، وأجابه " بنعم " ، ووقع ذلك أيضا في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير " بنعم " اتباعا لبعض العرب .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله : ( لو أن الله هداني ) ، ولم يفصل بينهما بآية ؟ ( قلت ) : لأنه لا يخلو ، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى . فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن ; وأما الثاني ، فلما فيه من نقض الترتيب ، وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعلل بفقد الهداية . ثم تمني الرجعة ، فكان الصواب ما جاء عليه ، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب . انتهى ، وهو كلام حسن .

وقرأ الجمهور : ( قد جاءتك ) ، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها ، خطابا للكافر ذي النفس . وقرأ ابن يعمر والجحدري ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، ومسعود بن صالح ، والشافعي عن ابن كثير ، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير ، والعبسي : بكسر الكاف والتاء ، خطاب للنفس ، وهي قراءة أبي بكر الصديق ، وابنته عائشة ، رضي الله عنهما ، وروتهما أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : ( جئتك ) بالهمز من غير مد ، بوزن " بعتك " ، وهو مقلوب من جاءتك ، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف ، كما سقطت في رمت وعرت .

ولما ذكر مقالة الكافر ، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبه ، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه ، - عليه السلام - .

والرؤية هنا من رؤية البصر ، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد ، وشرعهم ما لم يأذن به الله .

والظاهر أنه عام في المكذبين على الله ، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين . وقال الحسن : هم القدرية يقولون : إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل .

وقال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا ، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه ، فالكل كذبوا على الله ; فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز .

وقال الزمخشري : ( كذبوا على الله ) : وصفوه بما لا يجوز عليه ، وهو متعال عنه ، فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا : ( شفعاؤنا عند الله ) ، وقالوا : ( لو شاء الرحمن ما عبدناهم ) ، وقالوا : ( والله أمرنا بها ) ، ولا يبعد عنهم [ ص: 437 ] قوم ‌‌‌‌يسفهونه بفعل القبائح . ويجوز أن يخلق خلقا لا لغرض ، وقوله : لا لغرض ، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق ، ويجسمونه بكونه مرئيا مدركا بالحاسة ، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا مستترين بالبلكفة ، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدما . انتهى .

وكلام من قبله على طريقة المعتزلة . والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر ، وأن ( وجوههم مسودة ) جملة في موضع الحال ، وفيها رد على الزمخشري ، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية في موضع المفعول الثاني ، وهو بعيد ؛ لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب .

وقرئ : ( وجوههم مسودة ) بنصبهما ، فوجوههم بدل بعض من كل . وقرأ أبي : ( أجوههم ) ، بإبدال الواو همزة ، والظاهر أن الاسوداد حقيقة ، كما مر في قوله : ( فأما الذين اسودت وجوههم ) . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم .

ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله ، ذكر حال المتقين ، أي : الكذب على الله وغيره ، مما يئول بصاحبه إلى اسوداد وجهه ، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى . قال السدي : ( بمفازتهم ) : بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده ، وتفسير المفازة قوله : ( لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ) ، كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ قيل : لا يمسهم السوء ، أي : ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى : ( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ) ، أي : بمنجاة منه ؛ لأن النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا فسر ابن عباس - رضي الله عنه - المفازة بالأعمال الحسنة ; ويجوز بسبب فلاحهم ؛ لأن العمل الصالح سبب الفلاح ، وهو دخول الجنة .

ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة ؛ لأنه سببها .

( فإن قلت ) : ( لا يمسهم ) ، ما محله من الإعراب على التفسيرين ؟ ( قلت ) : أما على التفسير الأول فلا محل له ؛ لأنه كلام مستأنف ، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال . انتهى .

وقرأ الجمهور : ( بمفازتهم ) على الإفراد ، والسلمي ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : على الجمع ، من حيث النجاة أنواع ، والأسباب مختلفة .

قال أبو علي : المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله : ( وتظنون بالله الظنونا ) . وقال الفراء : كلا القراءتين صواب ، تقول : قد تبين أمر الناس وأمور الناس . ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد ، فذكر أنه خالق كل شيء ، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء ، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها .

( له مقاليد السماوات والأرض ) : قال ابن عباس : مفاتيح ، وهذه استعارة ، كما تقول : بيد فلان مفتاح هذا الأمر .

وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أن المقاليد : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير " .

وتأويله على هذا : أن لله هذه الكلمات ، يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض ، من تكلم بها من المتقين أصاب .

( والذين كفروا بآيات الله ) وكلماته توحيده وتمجيده ، ( أولئك هم الخاسرون ) .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم اتصل قوله : ( والذين كفروا ) ؟ ( قلت ) : بقوله : ( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) ( والذين كفروا ) ( هم الخاسرون ) ) واعترض بينهما : بأن خالق الأشياء كلها وهو مهيمن عليها ، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء ، وأن ( له مقاليد السماوات والأرض ) . قال أبو عبد الله الرازي : وهذا عندي ضعيف من وجهين : الأول : أن وقوع الفاصل [ ص: 438 ] الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد . والثاني : أن قوله تعالى : ( وينجي الله الذين اتقوا ) : جملة فعلية ، وقوله : ( والذين كفروا ) : جملة اسمية ، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، والأقرب عندي أن يقال : إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة ، وهو كونه خالق الأشياء كلها ، وكونه مالكا لمقاليد السماوات والأرض ، وقال : الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون . انتهى ، وليس بفاصل كثير . وقوله : وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، كلام من لم يتأمل لسان العرب ، ولا نظر في أبواب الاشتغال .

وأما قوله : والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري ، وقد جعل متصلا بما يليه ، على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه ، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك ( أولئك هم الخاسرون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية