الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 102 ] اعلم أنه تعالى لما هدد اليهود بقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) فعند هذا قالوا : لسنا من المشركين ، بل نحن خواص الله تعالى كما حكى تعالى عنهم أنهم قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] وحكى عنهم أنهم قالوا : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) [ البقرة : 80 ] ، وحكى أيضا أنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) وبعضهم كانوا يقولون : إن آباءنا كانوا أنبياء فيشفعون لنا . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : يا محمد هل على هؤلاء ذنب ؟ فقال : لا ، فقالوا : والله ما نحن إلا كهؤلاء ؛ ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار ، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل . وبالجملة فالقوم كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم ، فذكر تعالى في هذه الآية أنه لا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : التزكية في هذا الموضع عبارة عن مدح الإنسان نفسه ، ومنه تزكية المعدل للشاهد ، قال تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) [ النجم : 32 ] وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى ، والتقوى صفة في الباطن ، ولا يعلم حقيقتها إلا الله ، فلا جرم لا تصلح التزكية إلا من الله ؛ فلهذا قال تعالى : ( بل الله يزكي من يشاء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : أليس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض " .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : إنما قال ذلك حين قال المنافقون له : اعدل في القسمة ؛ ولأن الله تعالى لما زكاه أولا بدلالة المعجزة جاز له ذلك بخلاف غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( بل الله يزكي من يشاء ) يدل على أن الإيمان يحصل بخلق الله تعالى ؛ لأن أجل أنواع الزكاة والطهارة وأشرفها هو الإيمان ، فلما ذكر تعالى أنه هو الذي يزكي من يشاء دل على أن إيمان المؤمنين لم يحصل إلا بخلق الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( ولا يظلمون فتيلا ) هو كقوله : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) [ النساء : 40 ] والمعنى أن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم ، أو يكون المعنى أن الذين زكاهم الله فإنه يثيبهم على طاعاتهم ولا ينقص من ثوابهم شيئا ، والفتيل ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ ، فعيل بمعنى مفعول . وعن ابن السكيت : الفتيل ما كان في شق النواة ، والنقير النقطة التي في ظهر النواة ، والقطمير القشرة الرقيقة على النواة ، وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير ، أي لا يظلمون لا قليلا ولا كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية