الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا يجوز بيع تمر برطب بحال : لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أينقص الرطب إذا يبس ؟ " فنهى عنه فنظر إلى المتعقب " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            [ ص: 131 ] بيع التمر بالرطب لا يجوز ، وبه قال مالك ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وعامة الفقهاء . وقال أبو حنيفة : يجوز .

                                                                                                                                            استدلالا بأن التمر والرطب ليس يخلو حالهما من أن يكونا جنسا واحدا أو جنسين .

                                                                                                                                            فإن كانا جنسا واحدا جاز بيع بعضه ببعض متساويا حال العقد .

                                                                                                                                            وإن كانا جنسين فبيع أحدهما بالآخر أجوز .

                                                                                                                                            قال : ولأن الرطب نوع من التمر ينقص باليبس وطول المكث ، فلم يجز أن يكون ذلك مانعا من بيعه بتمر من جنسه ، هو أكثر من يبسه ، كما جاز بيع التمر الحديث بالتمر العتيق ، وإن كان الحديث ينقص إذا صار كالعتيق .

                                                                                                                                            قال : ولأن التماثل في الجنس معتبر بحال العقد ، ولا اعتبار بحدوث التفاضل فيما بعد ، كالسمسم يجوز بيعه بالسمسم إذا تماثلا ، وإن جاز بعد استخراجهما دهنا أن يتفاضلا .

                                                                                                                                            قال : ولأنه لما جاز عندكم بيع العرايا وهي تمر برطب على رءوس النخل ، لا يقدر على تماثلهما كيلا إلا بالخرص ، كان بيع التمر بالرطب المقدور على تماثلهما بالكيل أجوز ، وهو من الربا أبعد .

                                                                                                                                            والدلالة على ما قلنا رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الرطب بالتمر كيلا وعن بيع العنب بالزيت كيلا ، وعن بيع الزرع بالحنطة كيلا . وهذا نص .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما خص بالنهي التمر بالرطب إذا كان على رءوس النخل : لأنه وارد في المزابنة . قيل : هذا تأويل يفسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه تخصيص عموم بدعوى .

                                                                                                                                            والثاني : أنه نهى عن ذلك بالكيل ، وكيل ما على رءوس النخل غير ممكن ، فعلم أن النهي وارد فيما الكيل فيه ممكن .

                                                                                                                                            وروى بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الرطب بالتمر إلا أنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا . فإن قيل : فيحصل النهي عن بيع ذلك بالخرص : لأنه استثنى العرايا منها بالخرص .

                                                                                                                                            قيل : النهي إذا كان عاما لا يجوز أن يصير مخصوصا بالاستثناء إذا كان خاصا .

                                                                                                                                            [ ص: 132 ] وروى الشافعي عن مالك عن عبد الله بن زيد أن زيدا أبا عياش أخبره عن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع التمر بالرطب فقال : " أينقص الرطب إذا يبس " . قيل : نعم . قال : " فلا إذا " .

                                                                                                                                            وهذا أظهر الأخبار الثلاثة دليلا وتعليلا .

                                                                                                                                            اعترضوا على هذا الحديث من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : طعنهم في راويه ؛ فقالوا لم يرد إلا من جهة زيد بن عياش وهو ضعيف متروك الحديث .

                                                                                                                                            والجواب عن هذا أن زيدا أبا عياش ثقة من أهل المدينة مقبول الحديث ، وهو مولى لبني مخزوم . وقد روى عنه عبد الله بن زيد ، وعمران بن أبي أنس وغيرهما من وجوه أصحاب الحديث ، وقد ذكر هذا الحديث أبو داود في سننه ، وأثنى عليه أبو عيسى الترمذي في حديثه .

                                                                                                                                            الاعتراض الثاني : قدحهم في متنه ، فقالوا : لا يجوز أن يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب ينقص إذا صار تمرا حتى يسأل عنه . ومثل هذا لا يخفى على النساء والصبيان .

                                                                                                                                            والجواب : أن هذا السؤال وإن خرج مخرج الاستفهام ، فليس المقصود به الاستفهام ، وإنما قصد به التقرير كما قال تعالى : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] . فلم يكن ذلك استفهاما من الله تعالى وإنما كان تقريرا على موسى .

                                                                                                                                            كذلك هذا السؤال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه التقرير : لينبه به على العلة ، وأن كل ما ينقص إن يبس من سائر الأجناس فلا يجوز بيع بعضه ببعض ، ولو أجاب من غير تقرير لكان الجواب مقصورا على السؤال .

                                                                                                                                            الاعتراض الثالث : أن الحديث محمول على الإرشاد والمشورة ، كأن كان مشتري الرطب سأله مستشيرا في الشراء ، فقال لا لأنه ينقص عليك إذا يبس .

                                                                                                                                            والجواب عنه : أن هذا تأويل يخالف العادة بغير دليل : لأن العرف في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عن الأحكام التي يختص بعلمها دون المتاجر التي قد يشاركونه في العلم بها ، وأن جوابه عنها جواب شرعي ونهيه عنها نهي حكمي ، فلا جائز أن يعدل بالسؤال والجواب عن موضوعهما والعرف القائم فيهما .

                                                                                                                                            [ ص: 133 ] ودليلنا من طريق المعنى : أنه جنس فيه الربا ، فلم يجز بيع رطبه بيابسه متساويين كالحنطة بالعجين والخبز بالدقيق .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما لم يجز بيع الدقيق بالحنطة : لأن طحن الدقيق صنعة يعاوض عليها ، فصار في خبز الدقيق عوض ليس في مقابلته شيء ، وليس جفاف التمر بصنعة يعاوض عليها فجاز بيعه بالرطب . قيل : عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لو كان هذا صحيحا لجاز على أصلكم التفاضل في بيع الدقيق بالحنطة ، حتى يجيزوا بيع صاع من دقيق بصاعين من حنطة ، ليكون صاع بصاع ، والصاع الفاضل من الحنطة بإزاء ما في الدقيق من الصنعة ، فلما لم تقولوا بهذا دل على أنكم لم تجعلوا للصنعة قيمة .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن الصنعة لا تقوم في عقود الربا ولا تأثير لدخولها فيه . ألا ترى أنه لو ابتاع حليا مصبوغا بذهب مسبوك جاز إذا تماثلا ، ولا يكون وجود الصنعة في أحدهما دليلا على فساد العقد عليهما ، كذلك الدقيق بالحنطة ليس المنع من العقد عليهما لأجل ما في الدقيق من الصنعة ، وإذا لم يكن لهذا المعنى ، ثبت أنه لما ذكرنا من اختلافهما في حال الادخار .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لا يخلو أن يكون جنسا أو جنسين ، وإن تقابلوا بمثله في بيع الدقيق بالحنطة ، ثم يقال هما وإن كانا جنسا واحدا فقد اختلفا في حال الادخار ، فهنا لم يجز بيع أحدهما بالآخر .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن نقصان الرطب إذا صار تمرا كنقصان الحديث إذا صار عتيقا ، ثم لم يمنع حدوث النقصان من بيع الحديث بالعتيق ، كذلك لا يمنع في بيع التمر بالرطب ، من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الحديث والعتيق قد بلغا حال الادخار ، فجاز بيع أحدهما بالآخر وإن نقصا فيما بعد ، وليس كذلك الرطب : لأنه لم يبلغ حال الادخار .

                                                                                                                                            والثاني : أن نقصان الحديث إذا صار عتيقا يسيرا لا يضبط فكان معفوا عنه كالفضل بين الكيلين والوزنين لما كان يسيرا لا يضبط عفي عنه ، ونقصان الرطب كثير فلم يعف عنه .

                                                                                                                                            ألا ترى أن بيع الطعام الحديث بالطعام العتيق جائز ، وإن كان الحديث أندى والعتيق أيسر : لأن ما بينهما يسيرا فعفي عنه ، ولو كان الطعام مبلولا لم يجز بيعه بالطعام : لأن ما بينهما كثير فلم يعف عنه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن التماثل معتبر حال العقد ، وإن حدث التفاضل فيما بعد [ ص: 134 ] كالسمسم بالسمسم . قلنا : التماثل معتبر بحال الادخار ، والسمسم مدخر فصح التماثل فيه ، والرطب غير مدخر فلم يصح التماثل فيه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالعرايا ، فهو أن العرايا وإن جوزناها لتخصيص الشرع لها فلأننا اعتبرنا المماثلة حال الادخار ، وأنتم أسقطتم اعتبار المماثلة حال الادخار ، ثم المماثلة مأخوذة بالشرع فورد الشرع في مماثلة العرايا بالخرص وفي غيرها بالكيل .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر أن بيع التمر بالرطب لا يجوز فكذلك الزبيب بالعنب لا يجوز ، والفواكه كلها لا يجوز بيع رطبها بيابسها .

                                                                                                                                            فإذا اختلف الجنسان جاز بيع يابس أحدهما برطب الآخر ، ورطب أحدهما برطب الآخر .

                                                                                                                                            وأما النوعان من الجنس الواحد كالرطب البرني والرطب المعقلي فحكمهما حكم الجنس الواحد ، لا يجوز بيع تمر أحدهما برطب الآخر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية