الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : هل يملك العبد أم لا ؟

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ومن اشترى عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فيكون مبيعا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : لا خلاف بين الفقهاء أن العبد لا يملك بالميراث ، ولا يملك ما لم يملكه السيد ، واختلفوا هل يملك إذا ملكه السيد مالا أم لا بعد اتفاقهم أنه يملك بضع زوجته ؟

                                                                                                                                            فقال مالك ، وداود ، وهو قول الشافعي في القديم : إن العبد يملك المال بتمليك سيده حتى يجوز له أن يشتري ويتصرف في المال كيف يشاء .

                                                                                                                                            [ ص: 266 ] وقال أبو حنيفة ، والشافعي في الجديد : إن العبد لا يملك المال ، وإن ملكه سيده ولا يجوز أن يشتري ولا يتصرف فيما بيده إلا بإذن سيده ، واستدل من ذهب إلى أن العبد يملك بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [ النور : 32 ] فأخبر أنه يغنيهم ومن لا يملك لا يوصف بالغنى ، وبما روى الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع " فأضاف المال إليه بلام التمليك ، فدل على أنه يملك ، وبما روي " أن سلمان الفارسي وكان عبدا حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه طبقا فيه رطب ليختبر حال نبوته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما هذا ؟ " قال : صدقة . فرده عليه وقال : " إنا لا يحل لنا الصدقة " . ثم جاءه بعد ذلك بطبق آخر ، فقال : " ما هذا ؟ " فقال : هدية . فقبله ، فقال : " إنا نقبل الهدية ونكافئ عليها " ، فلو كان العبد لا يملك لما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول هديته ، ولأنه آدمي فجاز أن يملك كالحر ، ولأن الرق لا يمنع من جواز الملك كالمكاتب ، ولأن كل من ملك شيئا ملك بدله ، فلما ثبت أن العبد يملك بضع زوجته وجب أن يصح منه ملك بدله ، وهو المهر : ولأن كل من صح أن يملك البضع نكاحا صح أن يملكه شراء ، كالحر ، ولأن كل من ملك عليه المال في ذمته ملكه في غيره كالمكاتب .

                                                                                                                                            والدليل على صحة ما قاله في الجديد : أن العبد لا يملك وإن ملك ، قوله تعالى : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء [ النحل : 175 ] وفيها دليلان : أحدهما : أنه نفى عنه القدرة فكانت على عمومها في الملك وغيره ، ولأنه لما نفى عنه القدرة وقد تساوى الحر في البطش والقوة دل على أنه أراد ما يخالف الحر فيه من القدرة على الملك دون غيره .

                                                                                                                                            وقال تعالي : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء [ الروم : 28 ] . وموضع الدليل من هذه الآية أن الله تعالى ضربها مثلا لنفسه فقال : لما كان عبيدكم الذين ملكت أيمانكم لا يشاركونكم في أملاككم ، كذلك أنتم عبيدي لا تشاركوني في ملكي . فلو قيل : إن العبد يملك مثل سيده بطل ضرب المثل به . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع " .

                                                                                                                                            فوجه الدليل فيه أنه لما جعل مال العبد لسيده في حال زوال ملكه وارتفاع يده فأولى أن يكون لسيده في حال ملكه وثبوت يده ، ودليل ثان من الخبر : وهو أن الملك تابع للمالك فلو كان ما أضيف إلى العبد من المال ملكا له ، لوجب أن ينتقل وجه ، فلما لم ينتقل وكان ملكا للسيد بأن بان من قبل على ملك السيد ، ولأنه مملوك ، فلم يجز أن يكون مالكا كالبهيمة ولأن الآدميين [ ص: 267 ] صنفان : مالكون ومملوكون ، فلما لم يجز أن يكون المالك مملوكا ، لم يجز أن يكون المملوك مالكا ، ولأن الفرق الذي فيه من جنس الرق الذي في غيره ، فلما لم يجز أن يملك رق نفسه لم يجز أن يملك رق غيره .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أنه رقيق فلم يجز أن يملك الرقيق قياسا على رق نفسه : ولأن الإرث من أقوى أسباب الملك لحصول الملك به من غير قصد ، فلما لم يملك العبد بالإرث ، وهو من أقوى أسباب التمليكات ، فأولى أن لا يملك بأضعف أسباب التمليكات ، وتحريره علة أن كل سبب ليملك به المال لم يملك به العبد كالإرث ، ولأن الرق ينافي الملك بدليل أن حدوثه يزيل ملك الحربي ، فلما كان الرق قاطعا لاستدامة الملك فأولى أن يكون مانعا من ابتداء الملك . ولأن تمليكه العبد يؤدي إلى تناقض الأحكام ، وهو أن يملك العبد عبدا فيملكه مالا فيشتري مولاه من سيده فيصير كل واحد من العبدين سيدا لصاحبه ، فتتناقض أحكامهما : لأن كل واحد منهما يصير قاهرا لأن سيده مقهور لأنه عبد وعليه النفقة لأنه سيد ، وله النفقة لأنه عبد ، وما أدى إلى تناقض الأحكام منع منه ، كالزوجة إذا تملكت زوجها ، لما كان اجتماع الزوجين والملك متناقضا أبطلت الزوجية وأثبت الملك .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [ النور : 32 ] . فهو ما ذكرنا من التأويل أن يغنيهم بحلال الوطء عن حرامه على أنه يحمل على غناهم بالمال بعد العتق ، وأما الجواب عن قوله من باع عبدا وله مال فهو ما ذكرناه من الاستدلال منه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث سلمان رضي الله عنه فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن سلمان لم يكن عبدا ، وإنما كان حرا مغصوبا .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه كان قد أهدى بإذن سيده : لأن من جعل مالكا منعه من الهدية إلا بإذن سيده .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن المكاتب فهو عندنا غير مالك ، وإنما يجوز له التصرف فيما بيده .

                                                                                                                                            والسيد ممنوع لأجل الكتاب من انتزاع ما في يده : ليحصل له الأداء فيعتق ، ولو جاز له انتزاعه لأعوزه الأداء .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الحر ، فهو أن المعنى في الحر أنه لما ملك أرش الجناية عليه ملك غيره ، ولما لم يملك العبد أرش الجناية لم يملك غيره .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم إن من ملك شيئا ملك بدله ، فهو أن العبد ليس يملك البضع وإنما يستبيح الاستمتاع به من الزوجة ، والعبد والحر ، في الاستباحة سواء كما يستويان في أكل الميتة عند الضرورة ، ومن هذا الوجه خالف عقد النكاح ملك اليمين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية