الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب استحلاف المنكر إذا لم تكن بينة وأنه ليس للمدعي الجمع بينهما

                                                                                                                                            3932 - ( عن الأشعث بن قيس قال : { كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : شاهداك أو يمينه ، فقلت : إنه إذن يحلف ولا يبالي ، فقال : من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان } متفق عليه ، واحتج به من لم ير الشاهد واليمين ، ومن رأى العهد يمينا .

                                                                                                                                            وفي لفظ : { خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه ، قلت : ما لي بينة وأن يجعلها يمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان } رواه أحمد )

                                                                                                                                            [ ص: 348 ] ( وعن وائل بن حجر قال : { جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي : يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي ، قال الكندي : هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال : فلك يمينه ، فقال : يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه ، وليس يتورع من شيء ، قال : ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل : أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض } رواه مسلم والترمذي وصححه ، وهو حجة على عدم الملازمة والتكفيل وعدم رد اليمين ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( كان بيني وبين رجل خصومة ) قد تقدم في كتاب الغصب أن الأشعث بن قيس قال { : إن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم } وهكذا وقع في رواية أبي داود ، وذلك يقتضي أن الخصومة بين رجلين غيره . ورواية حديث الباب تقتضي أنه أحد الخصمين . ويمكن الجمع بالحمل على تعدد الواقعة ، فإن في رواية لأبي داود في حديث الأشعث هذا بلفظ { كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فيها } ففي هذا تصريح بأن خصمه كان يهوديا بخلاف ما تقدم في الغصب فإنه قال : " إن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت " والكندي هو امرؤ القيس بن عابس الصحابي الشاعر ، والحضرمي هو ربيعة بن عبدان بكسر العين .

                                                                                                                                            وكذلك حديث وائل المذكور ههنا بأن الخصومة فيه بين الكندي والحضرمي وهما المذكوران في حديث الأشعث المتقدم ، فلعل الرواية لقصة الكندي والحضرمي من طريق الأشعث ومن طريق وائل وأما المخاصمة بين الأشعث وغريمه فقصة أخرى رواها الأشعث والله أعلم . قوله : ( في بئر ) في رواية أبي داود " في أرض " ولا امتناع أن يكون المجموع صحيحا ، فتارة ذكرت الأرض لأن البئر داخلة فيها ، وتارة ذكرت البئر لأنها المقصودة . قوله : ( يقتطع بها مال امرئ مسلم ) التقييد بالمسلم ليس لإخراج غير المسلم ، بل كأن تخصيص المسلمين بالذكر لكون الخطاب معهم . ويحتمل أن تكون العقوبة العظيمة مختصة بالمسلمين وإن كان أصل العقوبة لازما في حق الكفار

                                                                                                                                            قوله : ( لقي الله وهو عليه غضبان ) هذا وعيد شديد لأن غضب الله سبب لانتقامه وانتقامه بالنار ، فالغضب منه عز وجل يستلزم دخول المغضوب عليه النار ، ولهذا وقع في رواية لمسلم { من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار } ولا بد من تقييد ذلك بعدم التوبة ، وسيأتي بقية الكلام على هذا في باب [ ص: 349 ] التشديد في اليمين الكاذبة . قوله : ( ليس يتورع من شيء ) أصل الورع الكف عن الحرام ، والمضارع بمعنى النكرة في سياق النفي فيعم ويكون التقدير ليس له ورع عن شيء . قوله : ( ليس لك منه إلا ذلك ) في هذا دليل على أنه لا يجب للغريم على غريمه اليمين المردودة ، ولا يلزمه التكفيل ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس ولكنه قد ورد ما يخصص هذه الأمور من عموم هذا النفي وقد تقدم بعض ذلك ولنذكر ههنا ما ورد في جواز الحبس لمن استحقه ، فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة } . قال الترمذي : حسن ، وزاد هو والنسائي { ثم خلى عنه } وقد تقدم الكلام على حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، ولكنه قد روى هذا الحديث الحاكم وقال : صحيح الإسناد وله شاهد من حديث أبي هريرة ثم أخرجه ، ولعله ما رواه ابن القاص بسنده عن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة يوما وليلة } استظهارا وطلبا لإظهار الحق بالاعتراف

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده { أنه قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : جيراني بما أخذوا ، فأعرض عنه مرتين لكونه كلمه في حال الخطبة ، ثم ذكر شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خلوا له عن جيرانه } فهذا يدل على أنهم كانوا محبوسين . ويدل أيضا على جواز الحبس ما تقدم في باب ملازمة الغريم ، فإن تسليط ذي الحق عليه وملازمته له نوع من الحبس ، وكذلك يدل على الجواز حديث { مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته } لأن العقوبة مطلقة والحبس من جملة ما يصدق عليه المطلق ، وقد تقدم الحديث في كتاب التفليس

                                                                                                                                            وحكى أبو داود عن ابن المبارك أنه قال في تفسير الحديث : يحل عرضه : أي يغلظ عليه وعقوبته يحبس له . وروى البيهقي { أن عبدا كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه ، فحبسه النبي صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له } وفيه انقطاع . وقد روي من طريق أخرى عن عبد الله بن مسعود مرفوعا . وقد بوب البخاري على ذلك في صحيحه فقال في الأبواب التي قبل كتاب اللقطة ما لفظه : باب الربط والحبس في الحرم . قال في الفتح : كأنه أشار بهذا التبويب إلى رد ما نقل عن طاوس أنه كان يكره السجن بمكة ويقول : لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة . وأورد البخاري في الرد عليه أن نافع بن عبد الحارث اشترى دارا للسجن بمكة وكان نافع عاملا لعمر على مكة

                                                                                                                                            وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن محمد بن يحيى بن غسان الكناني عن هشام بن سليمان عن ابن جريج أن نافع بن عبد الحارث الخزاعي كان عاملا لعمر على مكة فابتاع دار السجن من صفوان فذكر نحو ما ذكره البخاري ، وزاد في آخره : وهو الذي يقال له : سجن عارم بمهملتين . قال البخاري : وسجن ابن الزبير بمكة انتهى

                                                                                                                                            [ ص: 350 ] والحاصل أن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن في جميع الأعصار والأمصار من دون إنكار .

                                                                                                                                            وفيه من المصالح ما لا يخفى ، لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجد حدا ولا قصاصا حتى يقام عليهم فيراح منهم العباد والبلاد ، فهؤلاء إن تركوا وخلي بينهم وبين المسلمين بلغوا من الإضرار بهم إلى كل غاية وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها فلم يبق إلا حفظهم في السجن والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره ، وقد أمرنا الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقيام بهما في حق من كان كذلك لا يمكن بدون الحيلولة بينه وبين الناس بالحبس كما يعرف ذلك من عرف أحوال كثير من هذا الجنس

                                                                                                                                            وقد استدل البخاري على جواز الربط بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري مسجده الشريف كما في القصة المشهورة في الصحيح




                                                                                                                                            الخدمات العلمية