الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر عمرة الحديبية

في هذه السنة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرا في ذي القعدة ، لا يريد حربا ، ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ، ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة ، وقيل : ألف وخمسمائة ، وقيل : ثلاثمائة ، وساق الهدي معه سبعين بدنة ؛ ليعلم الناس أنه إنما جاء زائرا للبيت . فلما بلغ عسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعوا بمسيرك ، فاجتمعوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا ، وقد قدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم .

وقيل : إن خالدا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما ، وإنه أرسله ، فلقي عكرمة بن أبي جهل فهزمه . والأول أصح .

ولما بلغه بسر ما فعلت قريش ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يا ويح قريش ، قد أكلتهم الحرب ! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين ، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة .

ثم خرج على غير الطريق التي هم بها ، وسلك ذات اليمين ، حتى سلك ثنية المرار على مهبط الحديبية ، فبركت به ناقته ، فقال الناس : خلأت . فقال : ما خلأت ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها . ثم قال للناس : انزلوا . فقالوا : ما بالوادي ماء . فأخرج سهما من كنانته ، فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عنه بعطن
، وكان اسم الذي أخذ السهم [ ص: 83 ] ناجية بن عمير ، سائق بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فبينما هم كذلك أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه خزاعة ، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تهامة ، فقال : تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، قد نزلوا أعداد مياه الحديبية ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : إنا لم نأت لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ، ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي .

فانطلق بديل إلى قريش فأعلمهم ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : إن هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، دعوني آته ، فقالوا : ائته . فأتاه وكلمه ، فقال له : يا محمد ، جمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، إنها قريش خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله أنك لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم الله لكأني بهؤلاء قد تكشفوا عنك غدا . فقال أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ قال : من هذا يا محمد ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم : هذا ابن أبي قحافة . فقال : أما والله لولا يد لك عندي لكفأتك بها . ثم جعل يتناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد ، فجعل يقرع يده إذا تناولها ويقول له : اكفف يدك قبل أن لا تصل إليك ، فقال عروة : من هذا ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم : هذا ابن أخيك المغيرة . فقال : أي غدر ! وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ؟ - وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك وهرب ، فتهايج الحيان بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة للمقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح ذلك الأمر .

وطال الكلام بينهما : فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو مقالته لبديل ، فقال له عروة : يا محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وجعل يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فوالله لا يتنخم النبي نخامة إلا وقعت في كف [ ص: 84 ] أحدهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإن أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وما يحدون النظر إليه ؛ تعظيما له .

فرجع عروة إلى أصحابه وقال : أي قوم ، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، فوالله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ! وحدثهم ما رأى ، وما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فقال رجل من كنانة اسمه الحليس بن علقمة ، وهو سيد الأحابيش : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا فلان ، هو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوا الهدي في وجهه . فلما رأى الهدي رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا قوم ، قد رأيت ما لا يحل صده ، الهدي في قلائده . فقالوا : اجلس ، فإنما أنت أعرابي لا علم لك . فقال : والله ما على هذا حالفناكم ؛ أن تصدوا عن البيت من جاء معظما له ، والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين البيت ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . قال : فقالوا : مه ! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا .

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال : دعوني آته . فقالوا : افعل . فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : هذا رجل فاجر . فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، فلما جاء قال النبي : سهل أمركم .

وقال ابن إسحاق : إن قريشا إنما بعثت سهيلا بعد رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عثمان بن عفان . قال : لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش على جمل له يقال له : الثعلب ، ليبلغ عنه ، فعقروا به جمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش وخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر ليرسله إلى مكة ، فقال : ليس بمكة من بني عدي من يمنعني ، وقد علمت قريش عداوتي لها ، وأخافها على نفسي ، فأرسل عثمان فهو أعز بها مني . فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه ، فانطلق ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره ، فأتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد قتل ، فقال : لا نبرح حتى نناجز القوم .

[ ص: 85 ] ثم دعا الناس إلى البيعة ، فبايعوه تحت الشجرة
، وهي سمرة ، لم يتخلف منهم أحد إلا الجد بن قيس ، وكان أول من بايعه رجل من بني أسد يقال له : أبو سنان . ثم أتى الخبر أن عثمان لم يقتل .

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك ، فأقبل سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطال معه الكلام وتراجعا ، ثم جرى بينهم الصلح ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ، فقال : اكتب باسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : لا نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فكتبها ، ثم قال : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو - فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . فقال لعلي : امح رسول الله . فقال : لا أمحوك أبدا . فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس يحسن يكتب ، فكتب موضع رسول الله : محمد بن عبد الله ، وقال لعلي : لتبلين بمثلها - اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، وأنه من أتى منهم رسول الله بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله لم يردوه عليه ، ومن يحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل .

فدخلت خزاعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وأن يرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم عامه ذلك ، فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا وسلاح الراكب السيوف في القرب .

فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشكون في الفتح ؛ لرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال : يا محمد ، قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : صدقت ، وأخذه ليرده إلى قريش ، فصاح أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني ! فزاد الناس شرا إلى ما بهم ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : احتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك ، فلا نغدر بهم
. قال : فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل ، ويقول له : اصبر واحتسب ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ! وأدنى قائم السيف منه رجاء أن يأخذه فيضرب به أباه ، قال : فبخل الرجل بأبيه .

[ ص: 86 ] وشهد على الصلح جماعة من المسلمين ، فيهم : أبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم ، وجماعة من المشركين .

فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من قضيته قال : قوموا فانحروا ثم احلقوا . فما قام أحد حتى قال ذلك مرارا ، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك ، فقالت : يا نبي الله ، اخرج ، ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك ، وتحلق شعرك ، ففعل ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه ، حيث أمن الناس كلهم ، فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر .

فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي ، وهو مسلم ، وكان ممن حبس بمكة ، فكتب فيه الأزهر بن عبد عوف ، والأخنس بن شريق ، وبعثا فيه رجلا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهدا ، ولا يصلح الغدر في ديننا . فانطلق معهما إلى ذي الحليفة فجلسوا ، وأخذ أبو بصير سيف أحدهما فقتله به ، وخرج المولى سريعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بقتل صاحبه ، ثم أقبل أبو بصير فقال : يا رسول الله ، قد وفت ذمتك وأنجاني الله منهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مسعر حرب لو كان له رجال ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج أبو بصير حتى نزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر ، على طريق قريش إلى الشام ، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة ذلك ، فخرجوا إلى أبي بصير ، منهم أبو جندل ، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا ، فضيقوا على قريش يعترضون العير تكون لهم ، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فآواهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفيها نزلت سورة الفتح ، وهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسوة مؤمنات ، فيهن أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط ، فجاء أخوها عمارة والوليد يطلبانها ، فأنزل الله : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار الآية ، فلم يرسل امرأة مؤمنة إلى مكة ، وأنزل الله ولا تمسكوا بعصم الكوافر فطلق عمر بن الخطاب امرأتين له ، [ ص: 87 ] إحداهما قريبة بنت أبي أمية ، والثانية أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي ، وهما مشركتان ، فتزوج أم كلثوم أبو جهم بن حذيفة بن غانم .

( بسر بضم الباء الموحدة ، وسكون السين المهملة ، وآخره راء . بصير بالباء الموحدة المفتوحة ، والصاد المهملة المكسورة ، والياء الساكنة تحتها نقطتان ، وآخره راء أيضا . وأسيد بفتح الهمزة ، وكسر السين . وجارية بالجيم . والحليس بضم الحاء المهملة ، وفتح اللام ، وبعده ياء تحتها نقطتان ، وآخره سين مهملة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية