الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3002 (33) باب

                                                                                              الاستقراض وحسن القضاء فيه

                                                                                              [ 1692 ] عن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، فقال له: " أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء".

                                                                                              رواه مسلم (1600)، وأبو داود (3346)، والترمذي (1318)، والنسائي ( 7 \ 65 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (33) ومن باب جواز الاستقراض وحسن القضاء فيه

                                                                                              (قوله: استسلف بكرا ) استسلف: طلب السلف، وهو القرض. ويدل: على جواز الأخذ بالدين، ولا يختلف العلماء في جواز سؤاله عند الحاجة إليه، [ ص: 506 ] ولا نقص على طالبه، ولا تثريب، ولا منة تلحق فيه. ولو كان فيه شيء من ذلك لما استسلف النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أنزه الناس، وأبعدهم عن تلك الأمور.

                                                                                              و (البكر): الفتي من الإبل، وهو فيها كالغلام في الرجال. والقلوص فيها: كالجارية في النساء. وخيار الإبل والشيء: أحسنه، وأفضله. و (الرباعي): هو الذي في السنة السابعة؛ لأنه يلقي فيها رباعيته. وهي التي تلي الثنايا. وهي أربع رباعيات - مخففة الياء - والذكر: رباع. والأنثى: رباعية.

                                                                                              وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان. وهو مذهب الجمهور. ومنع ذلك الكوفيون. وهذا الحديث الصحيح حجة عليهم. واستثنى من الحيوان أكثر العلماء الجواري. فمنعوا قرضهن؛ لأنه يؤدي إلى عارية الفروج. وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يرد غيرها. وأجاز ذلك مطلقا الطبري ، والمزني ، وداود الأصبهاني . وقصر بعض الظاهرية جواز القرض على ما لا مثل من المعين، والمكيل، والموزون. وهذا الحديث حجة عليهم.

                                                                                              واختلف أرباب التأويل في استسلاف النبي صلى الله عليه وسلم هذا البكر، وقضائه عنه من مال الصدقة. هل كان ذلك السلف لنفسه، أو لغيره؟ فمنهم من قال: كان لنفسه، وكان هذا قبل أن تحرم عليه الصدقة. وهذا فاسد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم تزل الصدقة محرمة عليه منذ قدوم المدينة . وكان ذلك من خصائصه، ومن جملة علاماته المذكورة في الكتب المتقدمة؛ بدليل قصة سلمان الفارسي ، فإنه عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءه سلمان بتمر، فقدمه إليه، وقال: كل، فقال: (ما هذا؟) فقال: صدقة. [ ص: 507 ] فقال لأصحابه: (كلوا) ولم يأكل. وأتاه يوما آخر بتمر وقال: هدية، فأكل. فقال سلمان : هذه واحدة. ثم رأى خاتم النبوة فأسلم. وهذا واضح. وقيل: استسلفه لغيره ممن يستحق أخذ الصدقة، فلما جاءت إبل الصدقة دفع منها. وقد استبعد هذا من حيث: إنه قضاء أزيد من القرض من مال الصدقة. وقال: (إن خيركم أحسنكم قضاء) فكيف يعطي زيادة من مال ليس له؟ ويجعل ذلك من باب حسن القضاء؟ ! وقد أجيب عن هذا: بأن قيل: كان الذي استقرض منه من أهل الصدقة، فدفع الرباعي بوجهين: بوجه القرض، وبوجه الاستحقاق.

                                                                                              وقيل: وجه ثالث، وهو أحسنها، إن شاء الله تعالى. وهو: أن يكون استقرض البكر على ذمته، فدفعه لمستحق، فكان غارما، فلما جاءت إبل الصدقة أخذ منها بما هو غارم جملا رباعيا، فدفعه فيما كان عليه، فكان أداء عما في ذمته وحسن قضاء بما يملكه. وهذا كما روي: أنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمرو أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة. فظاهره: أنه أخذ على ذمته. فبقي أن يقال: فكيف يجوز له أن يؤدي دينه، ويبرئ ذمته مما لا يجوز له أخذه.

                                                                                              ويجاب عنه: بأنه لما لم يأخذه لنفسه صار بمنزلة من ضمنه في ذمته إلى وقت مجيء الصدقة. فلو لم يجئ من إبل الصدقة شيء لضمنه لمقرضه من ماله، والله أعلم. وقد تقدم الكلام على الزيادة في القضاء.

                                                                                              [ ص: 508 ] فإن قيل: كيف شغل النبي صلى الله عليه وسلم ذمته بدين، وقد قال: (إياكم والدين، فإنه شين، الدين هم بالليل، ومذلة بالنهار) وقد كان كثيرا ما يتعوذ منه، حتى قيل له: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم. فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف). لا يقال: إنما استقرض عند الحاجة والضرورة؛ لأنا نقول: لم يكن في ضرورة إلى ذلك، فإن الله تعالى خيره بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهبا، كما رواه الترمذي من حديث أبي أمامة ، واستحسنه؛ ومن كانت هذه حاله لم يكن في ضرورة، ولا حاجة. ولذلك قال الله تعالى له: ووجدك عائلا فأغنى [الضحى: 8]

                                                                                              قلت: أما الأخذ بالدين عند الحاجة، وقصد الأداء عند الوجدان: فلا يختلف في جوازه. وقد يجب في بعض الأوقات عند الضرورات المتعينة. وأما النهي عن أخذه - إن صح -: فإنما ذلك لمن لم تدعه إليه حاجة، لما يطرأ من تحمله من الأمور التي ذكرتها، من الإذلال، والمطالبة، وما يخاف من الكذب في الحديث، والإخلاف في الوعد. وقد عصم الله نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك كله، فلم يحوجه إلى شيء من ذلك، ولا أجراه عليه.

                                                                                              وأما قولهم: إنه لم يكن في ضرورة؛ لأن الله خيره. فجوابه: إن الله تعالى لما خيره، فاختار أن يجوع ثلاثا، ويشبع يوما؟ أجرى الله تعالى عليه ما اختاره لنفسه، وما أشار إليه به صفيه، ونصيحه جبريل صلى الله عليهما وسلم، فسلك الله تعالى به من ذلك أعلى السبيل، ليصبر على المشقات والشدائد، كما صبر أولو العزم من الرسل، ولينال أعلى المقامات [ ص: 509 ] الفاخرة. ألا تسمع قوله لعمر رضي الله عنه: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟) ثم لما أخلص الله جوهره. وطيب خبره وخبره؛ أغناه بعد العيلة، وكثره بعد القلة، وأعزه به بعد الذلة. ومن تمام الحكمة في أخذه صلى الله عليه وسلم بالديون ليقتدي به في ذلك المحتاجون.




                                                                                              الخدمات العلمية