الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان

وفي هذه السنة كانت وقعة جلولاء .

وسببها أن الفرس لما انتهوا بعد الهرب من المدائن إلى جلولاء ، وافترقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وأهل الجبال وفارس قالوا : لو افترقتم لم تجتمعوا أبدا ، وهذا مكان يفرق بيننا ، فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم ، فإن كانت لنا فهو الذي نحب ، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبلينا عذرا . فاحتفروا خندقا ، واجتمعوا فيه على مهران الرازي ، وتقدم يزدجرد إلى حلوان ، وأحاطوا خندقهم بحسك الحديد إلا طرقهم . فبلغ ذلك سعدا فأرسل إلى عمر ، فكتب إليه عمر : أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو ، وإن هزم الله الفرس فاجعل القعقاع بين [ ص: 346 ] السواد والجبل ، وليكن الجند اثني عشر ألفا .

ففعل سعد ذلك ، وسار هاشم من المدائن بعد قسمة الغنيمة في اثني عشر ألفا ، منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن كان ارتد ومن لم يرتد ، فسار من المدائن فمر ببابل مهروذ ، فصالحه دهقانها على أن يفرش له جريب الأرض دراهم ففعل وصالحه ، ثم مضى حتى قدم جلولاء ، فحاصرهم في خنادقهم وأحاط بهم ، وطاولهم الفرس وجعلوا لا يخرجون إلا إذا أرادوا ، وزاحفهم المسلمون نحو ثمانين يوما ، كل ذلك ينصر المسلمون عليهم ، وجعلت الأمداد ترد من يزدجرد إلى مهران ، وأمد سعد المسلمين ، وخرجت الفرس وقد احتفلوا ، فاقتتلوا ، فأرسل الله عليهم الريح حتى أظلمت عليهم البلاد فتحاجزوا فسقط فرسانهم في الخندق ، فجعلوا فيه طرقا مما يليهم يصعد منه خيلهم ، فأفسدوا حصنهم . وبلغ ذلك المسلمين فنهضوا إليهم وقاتلوهم قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير إلا أنه كان أعجل . وانتهى القعقاع بن عمرو من الوجه الذي زحف فيه إلى باب خندقهم فأخذ به وأمر مناديا فنادى : يا معشر المسلمين ، هذا أميركم قد دخل الخندق وأخذ به ، فأقبلوا إليه ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله . وإنما أمر بذلك ليقوي المسلمين . فحملوا ولا يشكون بأن هاشما في الخندق ، فإذا هم بالقعقاع بن عمرو وقد أخذ به ، فانهزم المشركون عن المجال يمنة ويسرة ، فهلكوا فيما أعدوا من الحسك ، فعقرت دوابهم وعادوا رجالة ، واتبعهم المسلمون فلم يفلت منهم إلا من لا يعد ، وقتل يومئذ منهم مائة ألف ، فحللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه ، فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم ، فهي جلولاء الوقيعة . فسار القعقاع بن عمرو في الطلب حتى بلغ خانقين .

ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الري ، وقدم القعقاع حلوان فنزلها في جند من الأفناء والحمراء .

وكان فتح جلولاء في ذي القعدة سنة ست عشرة .

[ ص: 347 ] ولما سار يزدجرد عن حلوان استخلف عليها خشرشنوم ، فلما وصل القعقاع قصر شيرين خرج عليه خشرشنوم وقدم إليه الزينبي دهقان حلوان ، فلقيه القعقاع ، فقتل الزينبي ، وهرب خشرشنوم ، واستولى المسلمون على حلوان ، وبقي القعقاع بها إلى أن تحول سعد إلى الكوفة ، فلحقه القعقاع ، واستخلف على حلوان قباذ ، وكان أصله خرسانيا .

وكتبوا إلى عمر بالفتح وبنزول القعقاع حلوان ، واستأذنوه في اتباعهم ، فأبى وقال : لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم ، حسبنا من الريف السواد ، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال . وأدرك القعقاع في اتباعه الفرس مهران بخانقين فقتله ، وأدرك الفيرزان فنزل وتوغل في الجبل فتحامى ، وأصاب القعقاع سبايا فأرسلهن إلى هاشم فقسمهن ، فاتخذن فولدن ، وممن ينسب إلى ذلك السبي أم الشعبي .

وقسمت الغنيمة ، وأصاب كل واحد من الفوارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب .

وقيل : إن الغنيمة كانت ثلاثين ألف ألف ، فقسمها سلمان بن ربيعة ، وبعث سعد بالأخماس إلى عمر ، وبعث الحساب مع زياد بن أبيه ، فكلم عمر فيما جاء له ووصف له ، فقال عمر : هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل ما كلمتني به ؟ فقال : والله ما على الأرض أهيب في صدري منك ، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك ! فقام في الناس بما أصابوا وما صنعوا ، وبما يستأنفون من الانسياح في البلاد . فقال عمر : هذا الخطيب المصقع . فقال : إن جندنا أطلقوا ألسنتنا .

فلما قدم الخمس على عمر قال : والله لا يجنه سقف حتى أقسمه . فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد ، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه ، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى ، فقال عبد الرحمن بن عوف : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فوالله إن هذا لموطن شكر ! . فقال عمر : والله ما ذلك يبكيني ، [ ص: 348 ] وبالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم . ومنع عمر من قسمة السواد ، لتعذر ذلك بسبب الآجام والغياض ومغيض المياه ، وما كان لبيوت النار ولسكك البرد ، وما كان لكسرى ومن جامعه ، وما كان لمن قتل والأرحاء ; وخاف أيضا الفتنة بين المسلمين ، ومنع من بيعه لأنه لم يقسم ، وأقروها حبيسا يولونها من أجمعوا عليه بالرضا ، وكانوا لا يجمعون إلا على الأمراء ، فلا يحل بيع شيء من أرض السواد ما بين حلوان والقادسية ، واشترى جرير أرضا على شاطئ الفرات ، فرد عمر ذلك الشراء وكرهه .

التالي السابق


الخدمات العلمية