الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها عقب العارض الاضطراري بالاختياري ( يفسدها التكلم ) هو النطق بحرفين أو حرف مفهم : كع وق أمرا [ ص: 614 ] ولو استعطف كلبا أو هرة أو ساق حمارا لا تفسد لأنه صوت لا هجاء له ( عمده وسهوه قبل قعوده قدر التشهد سيان ) وسواء كان ناسيا أو نائما أو جاهلا أو مخطئا أو مكرها [ ص: 615 ] هو المختار ، وحديث " { رفع عن أمتي الخطأ } " محمول على رفع الإثم وحديث ذي اليدين منسوخ بحديث مسلم { إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس } ( إلا السلام ساهيا ) للتحليل : أي للخروج من الصلاة ( قبل إتمامها على ظن إكمالها ) فلا يفسد ( بخلاف السلام على إنسان ) للتحية ، أو على ظن أنها ترويحة مثلا ، أو سلم قائما في غير جنازة ( فإنه يفسدها ) مطلقا ، وإن لم يقل عليكم ( ولو ساهيا ) فسلام التحية مفسد مطلقا ، وسلام التحليل إن عمدا

التالي السابق


باب ما يفسد الصلاة ، وما ويكره فيها

الفساد والبطلان في العبادات سواء لأن المراد بهما خروج العبادة عن كونها عبادة بسبب فوات بعض الفرائض ، وعبروا عما يفوت الوصف مع بقاء الفرائض من الشروط والأركان بالكراهة ، بخلاف المعاملات على ما عرف في الأصول شرح المنية ( قوله عقب العارض إلخ ) أي إن المفسدات عوارض على الصحة ، لكن منها اضطراري كسبق الحدث المذكور في الباب السابق ، ومنها اختياري كالتكلم ونحوه مما يأتي هنا ، فلذا عقب أحدهما بالآخر ، ولم يبين وجه تقديم الأول على الثاني ; وبينه في النهر بأن الاضطرار أعرف في العارضية أي إنه الأصل في العروض أفاده ح ( قوله يفسدها التكلم ) أي يفسد الصلاة ، ومثلها سجود السهو والتلاوة والشكر على القول ط عن الحموي ( قوله هو النطق بحرفين إلخ ) أي أدنى ما يقع اسم الكلام عليه المركب من حرفين كما [ ص: 614 ] في القهستاني عن الجلابي . وقال في البحر وفي المحيط : والنفخ المسموع المهجى مفسد عندهما ، خلافا لأبي يوسف . لهما أن الكلام اسم لحروف منظومة مسموعة من مخرج الكلام لأن الإفهام بهذا يقع ، وأدنى ما يقع به انتظام الحروف حرفان انتهى . وينبغي أن يقال إن أدناه حرفان أو حرف مفهم ك ع أمرا ، وكذا ق ، فإن فساد الصلاة بهما ظاهر ا هـ .

أقول : وقد يقال : إن نحو ع ، وق أمر منتظم من حروف تقديرا غير أنها حذفت لأسباب صناعية ، فهو داخل في تعريف الكلام المذكور بل هو كلام نحوي ، ولعل الشارح جزم به لذلك ; ولم ينبه على أنه بحث لصاحب البحر فتدبر . وقد ظهر من هذا أن الحرف الواحد المهمل لا يسمى كلاما ، فلا يدخل في قول الهندية والزيلعي أن الكلام مفسد قليلا كان أو كثيرا ، كما لا يخفى فافهم ( قوله ولو استعطف كلبا إلخ ) أي بما ليس له حروف مهجاة كما صرح به في الفتاوى الهندية ، ويشير إليه تعليل الشارح بقوله لأنه صوت لا هجاء له . ا هـ . ح ، لكن في الجوهرة أن الكلام المفسد ما يعرف في متفاهم الناس ، سواء حصلت به حروف أم لا ، حتى لو قال ما يساق به الحمار فسدت . ا هـ . وذكر الزيلعي فيه خلافا حيث قال عند قول الكنز والتنحنح بلا عذر . ولو نفخ في الصلاة ، فإن كان مسموعا تبطل وإلا فلا ، والمسموع ما له حروف مهجاة عند بعضهم نحو أف وتف ، وغير المسموع بخلافه ، وإليه مال الحلواني : وبعضهم لا يشترط للنفخ المسموع أن يكون له حروف مهجاة ، وإليه ذهب خواهر زاده . وعلى هذا إذا نفر طيرا أو غيره أو دعاه بما هو مسموع ا هـ لكن ما مر من تعريف الكلام عندهما يؤيد أن المسموع ما له حروف مهجاة ، وبه جزم في البدائع والفيض وشرح المنية والخلاصة ، نعم استشكل الشرنبلالي عدم الفساد بما يساق به الحمار بأنه يصدق عليه تعريف العمل الكثير الآتي ( قوله عمده وسهوه إلخ ) يفيد أن بينهما فرقا بعد القعود مع أنهما سيان أيضا في أنهما لا يفسدان الصلاة ; ولو أسقط قوله سيان فيكون عمده وسهوه بدلا من التكلم لسلم من هذا ح ( قوله أو ناسيا ) أي بأن قصد كلام الناس ناسيا أنه في الصلاة نهر . مطلب في الفرق بين السهو والنسيان

واختلف في الفرق بين السهو والنسيان ، ففي شرح التحرير لابن أمير حاج : ذهب الفقهاء والأصوليون وأهل اللغة إلى عدم الفرق . وفرق الحكماء بأن السهو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة ، والنسيان زوالها عنهما معا ، فيحتاج في حصولها إلى سبب جديد . وقيل النسيان عدم ذكر ما كان مذكورا . والسهو غفلة عما كان مذكورا أو ما لم يكن ، فالنسيان أخص منه مطلقا . ا هـ . ( قوله أو نائما ) هذه إحدى المسائل التي جعلوا فيها النائم في حكم اليقظان ، وهي خمس وعشرون ذكرها الشارح في شرحه على الملتقى نظما ( قوله أو جاهلا ) بأن لم يعلم أن التكلم مفسد ح ( قوله أو مخطئا ) بأن أراد قراءة أو ذكرا فجرى على لسانه كلام الناس ويأتي بيانه في مسألة زلة القارئ ( قوله أو مكرها ) أي بأن أكرهه أحد عليه ، ولم يقل أو مضطرا كما لو غلبه سعال أو عطاس أو جشاء لأنه غير مفسد لتعذر الاحتراز عنه .

قال في البحر : ودخل في التكلم المذكور قراءة التوراة والإنجيل والزبور فإنه يفسد كما في المجتبى ، وقال في الأصل لم يجزه . وعن الثاني : إن أشبه التسبيح جاز ا هـ . قال في النهر [ ص: 615 ] وأقول : يجب حمل ما في المجتبى على المبدل منها إن لم يكن ذكرا أو تنزيها ، وقد سبق أن غير المبدل يحرم على الجنب قراءته ا هـ ( قوله هو المختار ) راجع إلى التعميم المذكور ، لكن لا بالنسبة إلى جميع أفراده بل إلى قوله أو نائما ، فإن فيه خلافا عندنا ، قال في النهر : وبالفساد به قال كثير من المشايخ ، وهو المختار خلافا لما اختاره فخر الإسلام . ا هـ . وأما بقية المسائل فلم أر من ذكر فيها خلافا عندنا ، بل فيها خلاف غيرنا ( قوله { رفع عن أمتي الخطأ } ) قال في الفتح : ولم يوجد بهذا اللفظ في شيء من كتب الحديث ، بل الموجود فيها " { إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } " رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم ، وقال صحيح على شرطهما ح .

( قوله على رفع الإثم ) وهو الحكم الأخروي ، فلا يراد الدنيوي وهو الفساد لئلا يلزم تعميم المقتضى ح عن البحر ( قوله وحديث ذي اليدين ) اسمه الخرباق ، وكان في يديه أو إحداهما طول ، ولفظه " { أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ قال : لم أنس ولم تقصر ، قال : بل نسيت يا رسول الله ، فأقبل على القوم ، فقال : أصدق ذو اليدين ؟ فأومئوا أي نعم } زيلعي ط ( قوله منسوخ بحديث مسلم إلخ ) هو ما أخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال { بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت له : يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أماه ، ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتوني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني ، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن } " كذا في الفتح وشرح المنية ، ومنع النسخ بأن حديث ذي اليدين رواه أبو هريرة وهو متأخر الإسلام . وأجيب بجواز أن يرويه عن غيره ولم يكن حاضرا ، وتمامه في الزيلعي .

قال في البحر وهو غير صحيح ، لما في صحيح مسلم عنه " بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وساق الواقعة ، وهو صريح في حضوره ، ولم أر عنه جوابا شافيا . ا هـ . أقول : أظن أن صاحب البحر اشتبه عليه حديث ذي اليدين مع حديث معاوية بن الحكم الذي نقلناه عن صحيح مسلم فليراجع ( قوله ساهيا ) يغني عنه قوله على ظن إكمالها ( قوله أو على ظن ) معطوف على قوله على إنسان فافهم ( قوله إنها ترويحة مثلا ) أي بأن كان يصلي العشاء فظن أنها التراويح ; ومثله ما لو صلى ركعتين من الظهر فسلم على ظن أنه مسافر أو أنها جمعة أو فجر ( قوله أو سلم قائما ) أي على ظن أنه أتم الصلاة بحر ( قوله فإنه يفسدها ) أي في الصور الثلاث ; أما السلام على إنسان فظاهر ; وأما السلام على ظن أنها ترويحة فلأنه قصد القطع على ركعتين ، بخلاف ما إذا ظن إكمالها فإنه قصد القطع على أربع باعتبار ظنه . وأما السلام قائما فلأنه إنما اغتفر سهوه في القعود لأن القعود مظنته بخلاف القيام ، ولذلك اغتفر سهوه قائما في صلاة الجنازة لأن القيام فيها مظنة السلام . ا هـ . ح ( قوله مطلقا ) فسره قوله وإن لم يقل عليكم وقوله ولو ساهيا ح .

( قوله فسلام التحية إلخ ) هذا ما حرره في البحر بحثا ثم رآه مصرحا به في البدائع ، ووفق به بين ما في الكنز وغيره من إطلاق الفساد بالسلام وبين ما في المجمع وغيره [ ص: 616 ] من تقييده بالعمد ، بحمل الأول على الأول والثاني على الثاني ، ودخل في قوله إن عمدا ما لو ظن أنها ترويحة مثلا فسلم لأنه تعمد السلام كما مر خلافا لمن وهم




الخدمات العلمية