الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر الضرورة المبيحة لأكل الميتة قال الله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقال في آية أخرى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وقال : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم فقد ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات ، وأطلق الإباحة في بعضها بوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة ، وهو قوله : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها .

واختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فقال ابن عباس والحسن ومسروق : غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل . وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس . وأباحوا للبغاة الخارجين على المسلمين أكل الميتة عند الضرورة كما أباحوه لأهل العدل . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : " إذا لم يخرج باغيا على إمام المسلمين ولم يكن سفره في معصية فله أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ، وإن كان سفره في معصية أو كان باغيا على الإمام لم يجز له أن يأكل " . وهو قول الشافعي .

وقوله : إلا ما اضطررتم إليه يوجب الإباحة للجميع من المطيعين والعصاة ، وقوله في الآية الأخرى : غير باغ ولا عاد

وقوله : غير متجانف لإثم لما كان محتملا أن يريد به البغي والعدوان في الأكل واحتمل البغي على الإمام أو غيره ، لم يجز لنا تخصيص عموم الآية الأخرى بالاحتمال ، بل الواجب حمله على ما يواطئ معنى العموم من غير تخصيص .

وأيضا فقد اتفقوا على أنه لو لم يكن سفره في معصية بل كان سفره لحج أو غزو أو تجارة وكان مع ذلك باغيا على رجل في أخذ ماله أو عاديا في ترك صلاة أو زكاة ، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعا من استباحة الميتة للضرورة فثبت بذلك أن قوله : غير باغ ولا عاد لم يرد به انتفاء البغي والعدوان في سائر الوجوه ، وليس في الآية ذكر شيء منه مخصوص فيوجب ذلك كون اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان ، فلا يجوز تخصيص الآية الأولى به لتعذر استعماله على حقيقته وظاهره .

ومتى حملنا ذلك على البغي والتعدي في الأكل استعملنا اللفظ على عمومه وحقيقته فيما أريد به وورد فيه ، فكان حمله على ذلك أولى من وجهين :

أحدهما : أنه يكون مستعملا على عمومه ، والآخر : أنا لا نوجب به تخصيص قوله : إلا ما اضطررتم إليه [ ص: 157 ] وكذلك : غير متجانف لإثم لا يخلو من أن يريد به مجانبة سائر الآثام حتى يكون شرط الإباحة للمضطر أن يكون "غير متجانف لإثم" أصلا في الأكل وغيره ، حتى إن كان مقيما على ترك رد مظلمة درهم أو ترك صلاة أو صوم لم يتب منه لا يحل له الأكل ، أو أن يكون جائز له الأكل مع كونه مقيما على ضرب من المعاصي بعد أن لا يكون سفره في معصية ولا خارجا على إمام . وقد ثبت عند الجميع أن إقامته على بعض المعاصي لا تمنع استباحته للميتة عند الضرورة ، فثبت أن ذلك ليس بمراد . ثم بعد ذلك يحتاج في إثبات المأثم الذي يمنع الإستباحة إلى دلالة من غير الآية .

وهذا يوجب إجمال اللفظ وافتقاره إلى البيان ، فيؤدي ذلك إلى وقوف حكم الآية على بيان من غيرها ، ومتى أمكننا استعمال حكم الآية وجب علينا استعمالها ، وجهة إمكان استعمالها ما وصفنا من إثبات المراد بغيا وتعديا في الأكل بأن لا يتناول منها إلا بمقدار ما يمسك الرمق ويزيل خوف التلف . وأيضا قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ومن امتنع من المباح حتى مات كان قاتلا نفسه متلفا لها عند جميع أهل العلم ولا يختلف في ذلك عندهم حكم العاصي والمطيع .

بل يكون امتناعه عن ذلك من الأكل زيادة على عصيانه ، فوجب أن يكون حكمه وحكم المطيع سواء في استباحة الأكل عند الضرورة ، ألا ترى أنه لو امتنع من أكل المباح من الطعام معه حتى مات كان عاصيا لله تعالى وإن كان باغيا على الإمام خارجا في سفر معصية ، والميتة عند الضرورة بمنزلة المذكى في حال الإمكان والسعة .

فإن قيل : قد يمكنه الوصول إلى استباحة أكل الميتة بالتوبة ، فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه . قيل له : أجل ، هو كما قلت ، إلا أنه غير مباح له الجناية على نفسه بترك الأكل وإن لم يتب ؛ لأن ترك التوبة لا يبيح له قتل نفسه ؛ وهذا العاصي متى ترك الأكل في حال الضرورة حتى مات كان مرتكبا لضربين من المعصية :

أحدهما : خروجه في معصية ، والثاني : جنايته على نفسه بترك الأكل . وأيضا فالمطيع والعاصي لا يختلفان فيما يحل لهما من المأكولات أو يحرم ، ألا ترى أن سائر المأكولات التي هي مباحة للمطيعين هي مباحة للعصاة كسائر الأطعمة والأشربة المباحة ؟ وكذلك ما حرم من الأطعمة والأشربة لا يختلف في تحريمه حكم المطيعين والعصاة ، فلما كانت الميتة مباحة للمطيعين عند الضرورة وجب أن يكون كذلك حكم العصاة فيها كسائر الأطعمة المباحة في غير حال الضرورة .

فإن قال قائل : إباحة الميتة رخصة للمضطر ولا رخصة للعاصي . [ ص: 158 ] قيل له : قد انتظمت هذه المعارضة الخطأ من وجهين :

أحدهما : قولك " إباحة الميتة رخصة للمضطر " ؛ وذلك لأن أكل الميتة فرض على المضطر والاضطرار يزيل الحظر ، ومتى امتنع المضطر من أكلها حتى مات صار قاتلا لنفسه ، بمنزلة من ترك أكل الخبز وشرب الماء في حال الإمكان حتى مات كان عاصيا لله جانيا على نفسه . ولا خلاف في أن هذا حكم المضطر إلى الميتة غير الباغي .

فقول القائل : " إباحة الميتة رخصة للمضطر " بمنزلة قوله لو قال : " إن إباحة أكل الخبز وشرب الماء رخصة لغير المضطر " ولا يطلق هذا أحد يعقل ؛ لأن الناس كلهم يقولون : فرض على المضطر إلى الميتة أكلها ، فلا فرق بينهما ؛ ولما لم يختلف العاصي والمطيع في أكل الخبز وشرب الماء كذلك في أكل الميتة عند الضرورة .

وأما الوجه الثاني من الخطأ فهو قولك : " إنه لا رخصة للعاصي " وهذه قضية فاسدة بإجماع المسلمين ؛ لأنهم رخصوا للمقيم العاصي الإفطار في رمضان إذا كان مريضا ، وكذلك يرخصون له في السفر التيمم عند عدم الماء ، ويرخصون للمقيم العاصي أن يمسح يوما وليلة . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها .

ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع ؛ فبان بما وصفنا فساد هذه المقالة .

وقوله : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم كل واحد من هذين فيه ضمير لا يستغني عنه الكلام ؛ وذلك لأن وقوع الضرورة ليس من فعل المضطر ، فيكون قوله : فلا إثم عليه وقوله : فإن الله غفور رحيم خبرا له . وقوله : فمن اضطر لا بد له من خبر به يتم الكلام ، إذ لم يكن الحكم متعلقا بنفس الضرورة ، وخبره الذي يتم به الكلام ضميره وهو الأكل ، فكأن تقديره " فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه " ثم قوله : غير باغ ولا عاد على قول من يقول غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل ، فيكون البغي والعدوان حالا للأكل ، وتقديره على قول من يقول : غير باغ ولا عاد على المسلمين ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد على المسلمين فأكل فلا إثم عليه فيكون البغي والعدوان حالا له عند الضرورة قبل أن يأكل ، فلا يكون ذلك صفة للأكل ، وعند الأولين يكون صفة للأكل .

والحذف في هذا الموضع كالحذف في قوله : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر والمعنى : فأفطر فعدة من أيام أخر فحذف " فأفطر " . وقوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ومعناه : " فحلق ففدية " وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالمحذوف [ ص: 159 ] ودلالة الخطاب عليه .

وهذا يوجب أن يكون حمله على البغي والعدوان في الأكل أولى منه على المسلمين ؛ وذلك لأنه لم يتقدم للمسلمين في الآية ذكر لا محذوفا ولا مذكورا كحذف الأكل ، فحمله على ما في مقتضى الآية بأن يكون حالا له فيه وصفة أولى من حمله على معنى لم يتضمنه اللفظ لا محذوفا ولا مذكورا .

وأما قوله : إلا ما اضطررتم إليه فلا ضمير فيه ولا حذف ؛ لأنه لفظ مستغن بنفسه ؛ إذ هو استثناء من جملة مفهومة المعنى وهو التحريم بقوله : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه فإنه مباح لكم وهذا اللفظ مستغن عن الضمير . ومعنى الضرورة هاهنا هو خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل . وقد انطوى تحته معنيان :

أحدهما : أن يحصل في موضع لا يجد غير الميتة ، والثاني : أن يكون غيرها موجودا ولكنه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه . وكلا المعنيين مراد بالآية عندنا لاحتمالهما ، وقد روي عن مجاهد أنه تأولها على ضرورة الإكراه ؛ لأنه إذا كان المعنى في ضرورة الميتة ما يخاف على نفسه من الضرر في ترك تناوله وذلك موجود في ضرورة الإكراه وجب أن يكون حكمه حكمه ، ولذلك قال أصحابنا فيمن أكره على أكل الميتة فلم يأكلها حتى قتل كان عاصيا لله ، كمن اضطر إلى ميتة بأن عدم غيرها من المأكولات فلم يأكل حتى مات كان عاصيا ، كمن ترك الطعام والشراب وهو واجدهما حتى مات فيموت عاصيا لله بتركه الأكل ؛ لأن أكل الميتة مباح في حال الضرورة كسائر الأطعمة في غير حال الضرورة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية