الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              فصل

                                                              وقد اختلف الناس في هذه المسألة - وهي القصاص في اللطمة والضربة ونحوها، مما لا يمكن للمقتص أن يفعل بخصمه، مثل ما فعله به من كل وجه، هل يسوغ القصاص في ذلك، أو يعدل إلى عقوبته بجنس آخر، وهو التعزير؟ على قولين.

                                                              أصحهما: أنه شرع فيه القصاص، وهو مذهب الخلفاء الراشدين، ثبت [ ص: 129 ] ذلك عنهم حكاه عنهم أحمد وأبو إسحاق الجوزجاني في "المترجم"، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الشالنجي وغيره.

                                                              قال شيخنا رحمه الله: وهو قول جمهور السلف.

                                                              والقول الثاني: أنه لا يشرع فيه القصاص، وهو المنقول، عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وقول المتأخرين من أصحاب أحمد، حتى حكى بعضهم الإجماع على أنه لا قصاص فيه.

                                                              وليس كما زعم، بل حكاية إجماع الصحابة على القصاص، أقرب من حكاية الإجماع على منعه، فإنه ثبت، عن الخلفاء الراشدين، ولا يعلم لهم مخالف فيه.

                                                              ومأخذ القولين: أن الله تعالى أمر بالعدل في ذلك، فبقي النظر في أي الأمرين أقرب إلى العدل ؟ فقال المانعون: المماثلة لا تمكن هنا، فكأن العدل، يقتضي العدول إلى جنس آخر وهو التعزير، فإن القصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ولهذا لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حد، ولا في القطع إلا من مفصل، لتمكن المماثلة، فإذا تعذرت في القطع والجرح صرنا إلى [ ص: 130 ] الدية.

                                                              فكذا في اللطمة ونحوها، لما تعذرت صرنا إلى التعزير.

                                                              قال المجوزون: القصاص في ذلك أقرب إلى الكتاب، والسنة، والقياس، والعدل من التعزير.

                                                              أما الكتاب: فإن الله سبحانه قال: وجزاء سيئة سيئة مثلها ، وقال : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، ومعلوم: أن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان، واللطمة أشد مماثلة للطمة، والضربة للضربة من التعزيز لها، فإنه ضرب في غير الموضع، غير مماثل لا في الصورة، ولا في المحل، ولا في القدر; فأنتم فررتم من تفاوت لا يمكن الاحتراز منه بين اللطمتين، فصرتم إلى أعظم تفاوتا منه، بلا نص ولا قياس.

                                                              قالوا: وأما السنة: فما ذكرنا من الأحاديث في هذا الباب، وقد تقدمت، ولو لم يكن في الباب إلا سنة الخلفاء الراشدين لكفى بها دليلا وحجة.

                                                              قالوا: فالتعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية، ولا قدرها، بل قد يعزروه بالسوط والعصا، ويكون إنما ضربه بيده أو رجله، فكانت العقوبة بحسب الإمكان في ذلك أقرب إلى العدل، الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله.

                                                              قالوا: وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من [ق227] جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى : جزاء وفاقا أي: وفق أعمالهم، وهذا ثابت شرعا وقدرا.

                                                              أما الشرع، فلقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، إلى قوله : والجروح قصاص ، فأخبر سبحانه: أن الجروح [ ص: 131 ] قصاص، مع أن الجارح قد يشتد عذابه إذا فعل به كما فعل، حتى يستوفى منه.

                                                              وقد ثبت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رضخ رأس اليهودي، كما رضخ رأس الجارية، وهذا القتل قصاص، لأنه لو كان لنقض العهد أو للحراب لكان بالسيف، لا يرضخ الرأس.

                                                              ولهذا كان أصح الأقوال: أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، ما لم يكن محرما لحق الله، كالقتل باللواطة، وتجريع الخمر ونحوه; فيحرق كما حرق، ويلقى من شاهق كما فعل، ويخنق كما خنق، لأن هذا أقرب إلى العدل.

                                                              وحصول مسمى القصاص، وإدراك الثأر، والتشفي والزجر المطلوب من القصاص، وهذا مذهب مالك والشافعي، وإحدى الروايات، عن أحمد.

                                                              قالوا: وأما كون القصاص لا يجب في الجرح، حتى ينتهي إلى حد، ولا في الطرف حتى ينتهي إلى مفصل، لتحقق المماثلة فهذا إنما اشتراط لئلا يزيد المقتضي على مقدار الجناية، فيصير الجاني مظلوما بذهاب ذلك الجزء، فتعذرت المماثلة فصرنا إلى الدية، وهذا بخلاف اللطمة والضربة، [ ص: 132 ] فإنه لما قدر تعدي المتقضي فيها لم يكن ذلك بذهاب جزء، بل بزيادة ألم وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولهذا توجبون التعزير مع ألمه يكون أضعاف ألم اللطمة، ويبرد من سن الجاني، مقدار ما كسر من سن المجني عليه، مع شدة الألم، وكذلك قلع سنه وعينه أو نحو ذلك، لا بد فيه من زيادة ألم ليصل المجني عليه إلى استيفاء حقه، فهلا اغتفرتم هذا الألم، المقدر زيادته في اللطمة والضربة، كما اغتفرتموه فيما ذكرنا من الصور وغيرها ؟

                                                              قال المانعون: كما عدلنا في الإتلاف المالي إلى القيمة، عند تعذر المماثلة، فكذلك ها هنا، بل أولى لحرمة البشرة، وتأكدها على حرمة المال.

                                                              قال المجوزون: هذا قياس فاسد من وجهين:

                                                              أحدهما: أنكم لا تقولون بالمماثلة في إتلاف المال، فإذا أتلف عليه ثوبا، لم تجوزوا أن يتلف عليه مثله من كل وجه، ولو قطع يده أو قتله لقطعت يده وقتل به، فعلم الفرق بين الأموال والأبشار، ودل على أن الجناية على النفوس والأطراف، تطلب فيها المقاصة، بما لا يطلب في الأموال.

                                                              الثاني: أنه لا يسلم، لكم أن غير المكيل والموزون، يضمن بالقيمة لا بالنظير، ولا إجماع في المسألة ولا نص; بل الصحيح: أنه يجب المثل في الحيوان وغيره، بحسب الإمكان، كما ثبت، عن الصحابة في جزاء الصيد، أنهم قضوا فيه بمثله من النعم بحسب الإمكان، فقضوا في النعامة ببدنة، وفي بقرة [ ص: 133 ] الوحش ببقرة، وفي الظبي بشاة، إلى غير ذلك.

                                                              قال المانعون: هذا على خلاف القياس، فيصار إليه اتباعا للصحابة، ولهذا منعه أبو حنيفة، وقدم القياس عليه، وأوجب القيمة.

                                                              قال المجوزون: قولكم: إن هذا على خلاف القياس، فرع على صحة الدليل، الدال على أن المعتبر في ذلك هو القيمة، دون النظير، وأنتم لم تذكروا على ذلك دليلا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، حتى يكون قضاء الصحابة بخلافه على خلاف القياس، فأين الدليل ؟

                                                              قال المانعون: الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم : ضمن معتق الشقص، إذا كان موسرا بقيمته، ولم يضمنه نصيب الشريك بمثله، فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون.

                                                              قال المجوزون: هذا أصل ما بنيتم عليه اعتبار القيمة في هذه المسائل وغيرها، ولكنه بناء على غير أساس، فإن هذا ليس مما نحن فيه في شيء، فإن هذا ليس من باب ضمان المتلفات بالقيمة، بل هو من باب تملك مال الغير [ ص: 134 ] بالقيمة، كتملك الشقص المشفوع بثمنه، فإن نصيب الشريك بقدر دخوله في ملك المعتق، ثم يعتق عليه بعد ذلك، والقائلون بالسراية متفقون على أن يعتق كله على ملك المعتق، والولاء له دون الشريك.

                                                              واختلفوا: هل يسري العتق عقب إعتاقه، أو لا يعتق حتى يؤدي الثمن ؟ على قولين للشافعي، وهما في مذهب أحمد، قال شيخنا: والصحيح: أنه لا يعتق إلا بالأداء.

                                                              وعلى هذا ينبني: ما إذا أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول، وقبل وزن القيمة، فعلى الأول: لا يعتق عليه، وعلى الثاني: يعتق عليه، ويكون الولاء بينهما.

                                                              وعلى هذا أيضا: ينبني ما إذا قال أحدهما: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر، فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق، ويعتق كله في مال المعتق، وعلى القول الثاني: يصح التعليق، ويعتق نصيب الشريك من ماله.

                                                              فظهر أن استدلالكم بالعتق استدلال باطل، بل إنما يكون إتلافا إذا قتله، فلو ثبت لكم بالنص، أنه ضمن قاتل العبد بالقيمة دون المثل كان حجة، وأنى لكم بذلك!

                                                              قالوا: وأيضا فالفرق واضح بين أن يكون المتلف عينا كاملة أو بعض عين، [ ص: 135 ] فلو سلمنا أن التضمين كان تضمين إتلاف لم يجب مثله في العين الكاملة.

                                                              والفرق بينهما: أن حق الشريك في العين، التي لا تمكن [ق228] قسمتها في نصف القيمة مثلا أو ثلثها، فالواجب له من القيمة بنسبة ملكه، ولهذا يجبر شريكه على البيع، إذا طلبه ليتوصل إلى حقه من القيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، وقوم عليه العبد قيمة كاملة، ثم أعطاه حقه من القيمة، ولم يقوم عليه الشقص وحده، فيعطيه قيمته، فدل على أن حق الشريك في نصف القيمة.

                                                              فإذا كان كذلك فلو ضمنا المعتق، نصيب الشريك بمثله من عبد آخر، لم نجبره على البيع، إذا طلبه شريكه; لأنه إذا لم يكن له حق في القيمة، بل حقه في نفس العين، فحقه باق منها.

                                                              قالوا: فظهر أنه ليس معكم أصل تقيسون عليه، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وقد ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض بكرا وقضى خيرا منه ، واحتج به من يجوز قرض الحيوان، مع أن الواجب في القرض رد المثل، وهذا يدل على أن الحيوان مثلي.

                                                              ومن العجب أن يقال: إذا اقترض حيوانا رد قيمته، ويقاس ذلك على الإتلاف والغصب فيترك موجب النص الصحيح لقياس لم يثبت أصله بنص ولا إجماع! ومنصوص أحمد: أن الحيوان في القرض يضمن بمثله.

                                                              وقال بعض أصحابه: بل بالقيمة طردا للقياس على الغصب.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية