الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

النظم التعليمية الوافدة في أفريقيا (قراءة في البديل الحضاري)

الدكتور / قطب مصطفى سانو

وسائل مقترحة لأسلمة النظم التعليمية الوافدة

إن ما أسلفنا من حديث حول أسلمة النظم والمناهج التعليمية الوافـدة، كـان حديثا في عالـم التنظيـر، وليس فـي عالـم التطبيق، فما لم نشفع حديثنا ببيان الوسائل الإجرائية والطرق الممكنة التي يتم ولوجها، بغية تحقيق أسلمة منشودة لتلك النظم والمناهـج الوافـدة على القارة. [ ص: 117 ]

وبطبيعة الحال، ليس ثمة شك في أن القرار السياسي ذو دور مهم في هـذا المجال، وذلك لأن رسم السياسات التعليمية وتحديد الأهداف العليا من التعليم، وتقرير علمانية التعليم أو عدم علمانيته، كل ذلك يعتبر شأنا سياسيا يستند إلى قرارات رجل السيف (القيادة) ، ولذلك فلعل لقائل أن يقول: إن الحديث عن أسلمة النظم السياسيـة ينبغـي أن يسبق الحديث عن أسلمـة النظـم التعليمية، فما لم يتم أسلمة السياسة، فإن التطلع إلى أسلمة التعليم رغبة بريئة غير واقعية، وحلم وردي يراود أحلام البلهاء من ذوي النيات الحسنة!

فهذا الزعم والتحليل محل تقدير، بيد أنه صحيح أيضا أن أسلمة التعليم هـي الأخرى قد تقود إلى أسلمة السياسة، بمعنى أن الجيل الذي يتلقى تعليما مؤسلما، ويتم إعداده من خلال التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة والوجود، هـو ذلك الجيل الذي سيتولى أسلمة السياسية خاصة وأسلمة الحياة عامة، وذلك عندما يأتي عليهم دورهم في قيادة بلدانهم، وصنع قراراتها المصيرية، ولذلك فإن الحديث عن أسلمة النظم التعليمية حديث عن أسلمة السياسة بطريقة ضمنية.. أضف إلى ذلك أن المجاهرة بالدعوة إلى أسلمة السياسة تفهم كأنها [ ص: 118 ] تطلع ورغبة في قلب نظم الحكم غير الإسلامية، وبالتالي فيقضى عليها منذ اللحظة الأولى التي يظهر فيها مثل هـذه الدعوات والأحلام.

وعليه فإن ثمة معقولية ووجها لحديثنا عن أسلمة النظم التعليمية قبل أسلمة السياسة والحكم والحياة برمتها.. وإذ ذلك كذلك، فأنى يمكن تحقيق أسلمة النظم التعليمية الوافدة على مستوى القارة، وخاصة أن الأجيال التي تحكم القارة ممن أعدتهم النظم التعليمية الوافدة، وأغلبهم -إن لم يكن كلهم- معجبون بها أيما إعجاب، ويرون فيها نظما قادرة على انتشال القارة من براثن التخلف والتأخر ؟

إن هـذا الاستفسار والتساؤل في غاية الأهمية، والإجابة عنه تشكل الطرق والوسائل الإجرائية، التي ينبغي اتباعها في أسلمة النظم التعليمية الوافدة.. وبناء على ذلك فإننا نتصور أن هـذا المشروع -أسلمة النظم التعليمية- يمكن أن يتحقق ويصبح واقعا ملموسا من خلال الاستعانة بالجهات التالية:

1 - التفاوض مع السلطات السياسية المسيرة، والسعي إلى إقناعها عن طريق تبيين الآثار الطيبة التي يمكن أن تترتب على أسلمة النظم التعليميـة، من جلب للاستقـرار والتقـدم والتطـور والرفاهـة، [ ص: 119 ] فـإذا ما اقتنعت السلطات النافذة بجدوى المشروع وأهميته، وقبلته، فعندئذ تتم عملية الأسلمة على محورين أساسين [1] :

أ - تصحيح ما تضمنته المناهج والمقررات الدراسية من مفاهيم وتصورات مفتعلة عن الدين وقيوميته على الحياة، بحيث يتم التمييز بين الوحي الإلهي الصحيح غير المحرف والوحي المحرف من جهة، والتمييز بين الوحي الإلهي الصحيح، وبين مفاهيم وتفسيرات البشر لذلك الوحي من جهة أخرى، وخاصة تأويلات القساوسة التي كرهت الدين والتدين في نفوس الغربيين والشرقيين.

ب - صياغة مفاهيم وتصورات جديدة عن القيم الحضارية ودورها في تحقيق التقدم والاستقرار والرفاهة للأفراد والمجتمعات، ثم تضمين المناهج والمقررات تلك القيم التي اصطلحنا عليها -من ذي قبل- بقيم التقدم والتطور، من عمل وجد، وأمانة وصدق، ومحبة وإيثار، وتفان وإتقان، واستقامة ووفاء...إلخ. مع إبراز العلاقة الجدلية بين هـذه القيم وقيام الحضارات وأفولها من جهة، وبين هـذه القيم ومعالجة دوامة تخلف المجتمعات وتأخرها. [ ص: 120 ]

2 - في حالة ما لو تعذر اقتناع السلطات المسيرة بجدوى المشروع وأهميته وصلاحيته لمكافحة خصال التخلف والتأخر، يتم الاستعانة بالمؤسسات والمراكز التعليمية الخاصة، التي لا تخضع خضوعا مباشرا لتوجيهات السلطات المسيرة، فيمكن لهذه الجهات أن تتبنى المشروع، وتجعله واقعا ملموسا، عن طريق إعداد جيل من الشباب الجامع بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة، ويوم أن يأتي دور هـؤلاء الشباب في قيادة مجتمعاتهم، وصنع القرارات الهامة، فيؤمل فيهم تحقيق المشروع على نطاق أوسع وأكبر.

إن اقتناع المؤسسات التعليمية الأهلية العليا بهذا المشروع وتبنيها إياه، لأقرب وسيلة وأيسرها لتنزيل هـذا المشـروع في أرض الواقـع.. ولا داعي للتخوف من إقبال الناس على هـذه المؤسسات بعد تبنيها هـذا المشروع، وذلك لأن المشروع فريد في ذاته، وجذاب في طبيعته، إذ أن الشباب الذين يتم إعدادهم وفق هـذا المشروع يجمعون بين المعرفة الدينية والمعرفة المهنية، ويجمعون بين الديني والدنيوي، فكرا وسلوكا وتعاملا، مما يجعلهم متفوقين على غيرهم من خريجي المؤسسات التعليمية الأهلية أو الحكومية التي تتبنى منهجا أحاديا (ديني فقط، أو دنيوي فقط) . [ ص: 121 ]

3 - ومن الوسائل التي يمكن اللجوء إليها في تحقيق أسلمة النظم التعليمية الوافدة: المعاهد والمدارس الدينية التي تعلم أبناء القارة مبادئ دينهم، وتحصر مجالات التعليم فيها على التعليم الديني.

وأسلمة هـذه المعاهد والمدارس، تتم بتطويرها فلسفة وأهدافا، وتغيير مناهجها ومقرراتها الدراسية، فالتعليم الديني المطبق فيها على الرغم مما له من أهمية كبيرة، غير أنه لا يكفي وحده لإعداد جيل من الشباب قادر على إحداث تغييرات نوعية جذرية معتبرة في واقع المجتمعات الإفريقية، وذلك لأن الطابع الغالب على هـذه المدارس والمعاهد طابع دعوي، محدود أثره وتأثيره على حركة الحياة في المجتمع، وليس لخريجيها من الشباب انخراط فعلي مؤثر في المجتمع، كما لا يتوقع منهم على المدى القريب أو البعيد، تولي قيادة مجتمعاتهم، ولا صنع قراراتها، فدائرة تأثيرهم ضيقة ومحدودة جدا، ومرد ذلك في تصورنا إلى الأسباب النفسية والاجتماعية والدينية التي دفعت الغير من أبناء الأمة إلى إنشاء هـذه المعاهد والمدارس، وقوفا في وجه حركات التبشير والتنصير ، التي كانت تجتاح القارة وتستولي على ألباب خيرة شبابها. [ ص: 122 ]

فهذه المدارس والمعاهد ردة فعل، قد لعبت دورا كبيرا في الحفاظ على تدين كثيـر من شبـاب الأمـة، بيـد أنها مـع كـل الأسـف ظلت ولا تزال تحتفظ بذات النزعة التي أدت إلى إنشائها، على الرغم من تغير الأحوال والظـروف في واقع القارة التي لم يعد فيها قطر تحت الاستغلال والاستعباد.

إن هـذه المدارس والمعاهد على الرغم من أهميتها، غير أن المعرفة التي تقدم لروادها قاصرة عن تحقيق حياة إسلامية متكاملة في واقع القارة، ولا تؤهل خريجيها للقيام بأداء مهام الخلافة لله في مجتمعاتهم، ولا لقيادة مجتمعاتهم نحو التقدم والتنمية والرفاهـة، وما ذلك إلا لأن المعارف والعلوم المؤهلة لكل هـذه المهام غائبة غيابا تاما في مناهج ومقررات هـذه المعاهد والمدارس [2] .

بل إن فهم جل هـذه المدارس والمعاهد للمعرفة الإسلامية فهم أعوج وقاصر، وذلك لأن المعرفة الإسلامية في حقيقتها (معرفة ناقدة [ ص: 123 ] بصيرة تتمثل وتتمكن من كل معرفة صحيحة، وتصدر عن قيم الوحي وغايات الرسالة، وتتصل بكل صحيح ونفيس من تراث الأمة وفكر علمائها.. وليست قيما وغايات فقط، وليست تأملات فردية، وليست تاريخا وتراثا.. ولكنها سبيل لتكوين عقلية علمية منهجية في وجوه العلم والمعرفة الاجتماعية والإنسانية والطبيعية والتطبيقية كافة...) [3] وعليه، فإن الحاجة اليوم ماسة إلى إعادة صياغة مناهج ومقررات هـذه المدارس والمعاهد، وتطعيمها بمواد العلوم الإنسانية والطبيعية المختلفة، بحيث يصبح خريجوها قادرين على الالتحاق بالمدارس الحكومية التي تتبنى العلمانية أو المادية مرجعية لها، فهؤلاء الشباب بعد تأهيلهم تأهيلا إسلاميا، وتزويدهم بالزاد الكافي، يمكن في المستقبل أن ينصهروا في مجتمعاتهم، ويحدثوا فيها تغييرات نوعية، وذلك بناء على المستوى العلمي المتكامل الذي تحصلوه عن طريق الجمع بين ما يعرف بالعلوم الدينية والعلوم العصرية.. وهؤلاء الشباب هـم الأمل في تحقيق أسلمة حقيقية للنظم والمناهج السائدة في القارة. [ ص: 124 ]

4 - إعادة تأهيل الشباب الذين تلقوا تعليمهم في المعاهد والجامعات الإسلامية المختلفة خارج بلدانهم:

إن تحقيق وتطبيق مشروع أسلمة النظم، يمكن أن يعهد إلى أولئك الشباب الذين واتتهم الفرصة في تلقي تعليمهم العالي في العلوم الإسلامية، في الجامعات والمعاهد الإسلامية خارج بلدانهم. فهؤلاء الشباب يؤمل أن يقوموا بأسلمة النظم التعليمية الوافدة، وذلك بعد تأهيلهم تأهيلا كافيا بتزويدهم بسلاح العلوم العصرية من علم نفس، واجتماع، وتربية، وتاريخ، واقتصاد، وطب، وهندسة، وإدارة، وسياسة، وقانون...إلخ.

فالعلوم والمعارف الإسلامية التي تلقوها في الجامعات والمعاهد الإسلامية لا تؤهلهم وحدها للقيام بأسلمة كافية للنظم، وذلك لغربتهم وعدم معرفتهم بتلك العلوم التي تدرس في جامعات دولهم، بل إن هـؤلاء الشباب الذين تم كل تكوينهم بالعربية فقط، يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان على هـامش الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. [ ص: 125 ]

ولذلك فإن دور هـؤلاء الشباب في أسلمة النظـم التعليميـة قـد لا يتجاوز دور تهيئة الجو، وتكثيف الدعوة إلى المشروع، ولكنهم ليسوا مؤهلين للأسلمة الحقيقية ما لم يتزودوا بزاد آخر، وما لم يثقفوا ذواتهم ثقافة عصرية مواكبة، وإن أهم مفتاح لتحقيق ذلك هـو استيعاب هـؤلاء الشباب لغة المستغل المستعمر، التي تنظر إليها المجتمعات على أنها لغة القيادة، والثقافـة، والسياسة، والعلـم، والتقـدم، والتطـور، وأن من لا يشرف عليها إشرافـا محكمـا لا يعـد مثقفا ولا أهـلا لأيـة قيـادة عامة!

ومن المؤسف أن جل الشباب الإفريقي المسلم لا يلقون لهذا الأمر بالا، ولا يعطونه حق قدره، الأمر الذي جعل أكثرهم أميين في هـذه اللغات، حتى إذا ما عادوا إلى بلدانهم ليس أمامهم سوى العمل في المدارس الأهلية المتعثرة، أو في المساجد دعاة وأئمة غير مؤثرين في حركة الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، الأمر الذي يجعل تأثيرهم على الأفكار والقرارات المصيرية لمجتمعاتهم تأثيرا محدودا للغاية، وربما قضى هـؤلاء الشباب سنوات طويلة من أعمارهم في صراعات مريرة غير مأمونة العواقب -ولا طائل حقيقيا وراءها في أكثر [ ص: 126 ] الأحيان- مع شيوخهم الذين لم يسعدهم الحظ في تلقي العلم خارج بلدانهم، وأشبه تلك الصراعات بأن تكون صراعات من أجل البقاء، فبدلا من أن ينخرط أولئك الشباب في الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، يلوذون بتصحيح أخطاء شيوخهم، وكشف مواطن ضعفهم، ومناكفتهم أمام الملأ، والتوسع في قدح وخدش أعراضهم بغية الإطاحة بهم، واحتلال مراكزهم الاجتماعية التي كونوها لأنفسهم خلال سنوات طويلة.

إن كثيرا من هـؤلاء الشباب يتخذون من المسائل الاجتهادية المختلف فيها ميادين للصراع والجدال والمراء، ويضيعون نتيجة لذلك أمهات القضايا والمشاكل العويصة التي تجتاح القارة، وتنتظر منهم مشاركة في حلها ومعالجتها.

فإعادة تأهيل هـؤلاء الشباب تأهيلا مهنيا، يمكن أن يعينهم ذلك على صرف جهودهم وأوقاتهم في البحث عن حلول عاجلة لأزمات مجتمعاتهم ومشاكلها المتعددة والمتنوعة، كما أن ذلك سيخفف من وطأة الصراعات التي تحدث بين الجماعات الإسلامية المختلفة حول بعض المسائل الخلافية الاجتهادية. [ ص: 127 ]

وأما المنهجية التي نقترح اتباعها في تأهيل هـؤلاء الشباب تأهيلا مهنيا، فإنها ترتكز على ضرورة أن تعمل الدول الإسلامية والجمعيات والمنظمات الخيرية -التي تعين أولئك الشباب دعاة رسميين لها في القارة، وتنفق مشكورة أموالا طائلة على شئون الدعوة والإرشاد، إضافة إلى رصدها رواتب شهرية لدعاتها المعتمدين، فإن هـذا الأمر لمقدر، ويستحق كل التقدير والتشجيع والامتنان، وعسى الله أن يجزي فاعليه عن الأمة خير الجزاء- على إعادة النظر في هـذا الأمر، وأن تنظر في إمكانية تجاوز هـذا المنهج في نشر تعاليم الدين ومبادئه في القارة، وذلك لأنه منهج لا يتوقع منه إحداث تأثير جذري ولا تغيير نوعي على مستوى تدين الناس في القارة، وما ذلك إلا لأن تأثيره يكاد أن ينحصر في صنف معين من الناس، ولا يصل إلى جميع شرائح الحياة، فليس لهذا المنهج أي تأثير يذكر على مستوى الحياة السياسية، ولا على مستوى الحياة الاقتصادية أو الفكرية.

وبما أن الغاية القصوى والهدف الأعظم هـو صيرورة تعاليم الدين قيمة على جميع مرافق الحياة في القارة، وصيرورة التدين والالتزام قضية عامة لكل طبقات المجتمع، لذلك فإن البحث عن منهجية بديلة [ ص: 128 ] قادرة على تحقيق هـذا الأمل قد آن حينه، وليس ثم من مبرر في الإعراض أو العزوف عنه.

وعليه فإننا نقترح: منهجية بديلة للمنهجية الحالية، وذلك بأن يتم تأهيل أولئك الشباب من خلال الميزانيات المرصودة للدعوة والدعاة في القارة، فتصرف تلك الأموال على تأهيلهم تأهيلا مهنيا متمثلا في إعادة تزويدهم وتثقيفهم في أحد العلوم العصرية من اقتصاد، وإدارة، وسياسة، وإعلام، وعلم نفس، واجتماع، وقانون، وتمريض، وهندسة، وغيرها من التخصصات المهنية، إضافة إلى تمكين هـؤلاء الشباب من اللغات الرسمية -لغة المستعمرين: الفرنسية والإنجليزية- التي يتحدث بها السواد الأعظم من مثقفي مجتمعاتهم.

إن هـؤلاء الشباب يوم أن يتم تأهيلهم تأهيلا مأمولا، فسيكون لهم شأن عظيم في إحداث تغييرات جذرية ونوعية في مجتمعاتهم، وما ذلك إلا لأن القارة في وقتها الراهن بحاجة ماسة إلى شباب أكفاء بإمكانهم إيجاد مغزى لوجودهم، من عمال ومنتجين ومستهلكين، قادرين على المساهمة في الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية [ ص: 129 ] لبلادهم، ورعايا يضطلعون بدورهم في نظام حق، ويدافعون عن وحدة عقيدتهم في مجموعة جغرافية سياسية، يعبر فيها الاحترام وتجانس العناصر المتنوعة عن روح الإسلام في أرقى مظاهره. [4] ولئن رأت الدول والمنظمات والجمعيات التي تنفق على الدعاة والدعوة في القارة الاستمرار في هـذا العمل الخيري الجبار، ولم تر حاجة إلى إيقافه، فإننا لا نزال نعقد عليها أملا في أن تنتهج منهجية ثانية، تتمثل في الجمع بين المنهجية التي اقترحناها، والمنهجية المتبعة في نشر الدعوة في القارة، وذلك بأن يتم تقسيم تلك الميزانيات إلى قسمين متوازيين:

أ - قسم يصرف على تأهيل النوابغ من هـؤلاء الشباب المسلم تأهيلا مهنيا، بحيث يعاد تكوينهم في أحد التخصصات المهنية التي أشرنا إليه آنفا.

ب - قسم آخر يصرف على الدعوة والدعاة، وليكن في هـذا القسم جزء مخصص لتمكين أولئك الدعاة من لغات بلدانهم [ ص: 130 ] الرسمية، تمكينا عميقا، وذلك من خلال مراكز اللغات، فإذا كانت اللغة الرسمية في بلدانهم إنجليزية، فقبل ابتعاثهم ينبغي تأهيلهم وتمكينهم من هـذه اللغة، وكذلك الحال فيما لو كانت لغتهم الرسمية فرنسية، ليتم تأهيلهم وتمكينهم من اللغة الفرنسية قبل ابتعاثهم، فلربما كان تأهيلهم اللغوي وسيلة لانخراطهم في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية، مما يوصلهم في نهاية المطاف إلى مراكز صنع القرارات والقيادة في مجتمعاتهم، فيصبحوا قادرين على إحداث التغييرات الجذرية المأمولة في الأمد القريب بإذن الله تعالى.

5 - عقد دروات تدريبية تثقيفية للشباب المثقف ثقافة غربية أو شرقية :

ليس من المقبول علميا ولا منهجيا تجاهل واقع عدد لا يستهان به من الشباب الإفريقي المسلم، الذين ما كتب لهم تلقي مبادئ دينهم تلقيا كافيا، وذلك إما تقصيرا من ذويهم، أو عدم توافر جهة تعينهم على حسن فهم مبادئ دينهم، وإذا كان ذلك هـو حظهم، فإنه ما كان لمشروع أسلمة النظم ليتجاوزهم، ولا ليبعدهم عن دائرة الاهتمام، [ ص: 131 ] وخاصة أنه في الإمكان إعادة تأهيل هـؤلاء أيضا تأهيلا دينيا، وإعادة تثقيفهم بمبادئ دينهم، وعقد جلسات حوار ونقاش معهم بغية تصحيح فهمهم لدينهم وعلاقته بالحياة العملية، فجل هـؤلاء الشباب ضحايا تلك النظم، وهم بأمس الحاجة إلى من يعينهم على حسن فهم دينهم الإسلامي، وعلى التمييز بينه وبين الدين الكنسي الذي عانى منه الإنسان الأوربي في القرون الوسطى.

إن كثيرا من هـؤلاء الشباب المثقف في الجامعات والمعاهد والدوائر الحكومية، على استعداد لتعلم مبادئ الدين إذا توافرت لهم منهجية عصرية راقية في التعلم، بعيدا عن التشويش والتشهير والتجريم، ولذلك فإن التعامل معهم وعرض مبادئ الدين عليهم يحتاج من المرء فطانة وذكاء، وإلى مقدرة فائقة في فن الإقناع والتأثير.

إن أدمغة أكثر هـؤلاء الشباب -إن لم يكن كلهم- ملأى بجملة من المفاهيم المضللة والتصورات المغشوشة عن الإنسان والحياة والكون والوجود.. وتصحيح هـذه المفاهيم وتلك التصورات مهمة لا تقل عن مهمة غسيل الأدمغة في طبيعتها، ولذلك فإن الحاجة ماسة إلى إدراك [ ص: 132 ] هذه الخلفيات، والتعامل معها برفق وأناة وصبر، فليس بمستبعد أن يتهم هـؤلاء الشباب الشخص الذي يحاول أن يصحح لهم هـذه الرواسب بالأصولية حينا، وبالتشدد حينا آخر، وينبغي أن يقابل المرء كل ذلك بروح رياضية، ويحاول قدر الإمكان التزام منهجية صارمة في الحوار مراعيا الأولويات.

إننا لنقترح على الدول والجمعيات والمنظمات الخيرية التي تنفق على بعثات الدعوة وشئونها في القارة، أن تخصص جزءا من ميزانياتها لتأهيل هـؤلاء الشباب، وتزويدهم بالمعلومات الأساسية التي فاتتهم أثناء دراستهم، ولم تتهيأ لهم الفرص لاكتسابها، وليتم تثقفيهم عن طريق عقد دورات تدريبية مركزة ومصصمة تصميما دقيقا، قصد إزالة ما ران على عقولهم من تصورات مزيفة عن علاقة الدين بالحياة، كما يمكن تأهيل هـؤلاء الشباب عن طريق تنظيم مخيمات منتظمة ومخططة، تتاح لهم فيها الفرص للتعبير عن فهمهم للدين، بغية مساعدتهم على تصحيح الفهوم المعوجة.

ومهما يكن من أمر، فإن العناية والاهتمام بتأهيل هـؤلاء الشباب تأهيلا دينيا، من الأهمية بمكان، وذلك لأن حظهم في قيادة [ ص: 133 ] مجتمعاتهم وصنع قراراتها في الأمد القريب والبعيد أكبر بكثير من حظ أية فصيلة أخرى من فصائل الشباب، كما أن مقدرتهم على التأثير السريع على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية في مجتمعاتهم تفوق مقدرة أية جهة أخرى. فهؤلاء هـم الذين يتناوبون على قيادة مجتمعاتهم، ورسم سياساتها ونظم تعليمها، ولذلك فإن تأهيلهم قبل أن يتسلموا مقاليد الحكم والقيادة والإدارة، كفيل بأن يجعلهم أكثر حماسة لمشروع أسلمة التعليم، فأسلمة السياسة، ثم أسلمة الحياة بجميع مرافقها.

هذه هـي الجهات الأساسية التي نخالها قادرة على الإسهام في تحقيق أسلمة للنظم التعليمية السائدة، وللحياة العملية في القارة. ومهما يكن من شيء، فإن مشروع أسلمة النظم، بل أسلمة الحياة في القارة الإفريقية ليست بشأن بعيد المنال، ولا بمعجزة خارقة للعادة، بل ليست بحلم وردي، وما ذلك إلا لأن الإسلام -كما أسلفنا- كان ولايزال دين الأغلبية، وتقبل الناس له يتطلب فهما لطبيعة الحياة الإفريقية، وإدراكا لمداخل النفوس وطرق التأثير فيها، إضافة إلى حسن [ ص: 134 ] التعامل مع المؤثرات الخارجية التي لعبت ولا تزال تلعب دورها في إلهاء الشباب وتمييعه، وإبعاده عن الفهم الصحيح لرسالته ودوره في الحياة.

ثمة غشاوة لاتزال تغشى أبصار كثير من شباب القارة المثقفين، الذين صنعتهم النظم التعليمية الوافدة، ويوم أن يأذن الله بإزالة هـذه الغشاوة عن أبصار الأجيال الصاعدة، فستسعد القارة سعادة ليست بعدها سعادة، وعسى الله أن يرينا ذلك اليوم في العاجل القريب بفضلـه وكرمه.

وعند هـذه النقطة، نصل إلى نهاية هـذه الدراسة، راجين من الله العلي القدير أن نكون قد وفقنا إلى تحقيق بعض من الأهداف التي رمناها، فإن كان ذلك كذلك، فإن الفضل يعود إلى توفيق الله وعونه جل جلاله، وإن قصرنا دون تحقيق ما كنا نصبو إليه، فذلك من النفس ومن الشيطان، وعسى الله -جل في علاه- أن يغفر الزلات، ويعفو عن العثرات، ويستر السقطات، إنه نعم المولى ونعم القدير. [ ص: 135 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية