الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أولا: تحليل مرجعيات النظم التعليمية السائدة

لعله من الأمر الغريب، ادعاء صدور النظم التعليمية الغربية أو الشرقية عن مرجعية موجهة؛ وذلك لأن الأمر الشائع والمألوف لدى جل المحللين المسلمين للنظم التعليمية غير الإسلامية (الغربية أو الشرقية) ، الانتهاء إلى القول بأنها: نظم تعليمية علمانية لا دينية (تجريبية [ ص: 52 ] بحتة) ، لا تستند إلى مرجعية دينية، فهذه النظم (لا تؤمن إلا بالمدرك المحسوس فقط، وتنكر أو تهمل كل ما هـو غيبي) [1] .

ليس ثمة ريب في أن الصدور عن هـذه القناعة، وقبول هـذا التحليل الشائع للنظم الغربية أو الشرقية، من الأمور التي تحتاج إلى المراجعة والنقد، وذلك لأن هـذه القناعة تكونت من خلال منطلقين غير علميين في تصورنا المتواضع:

أولهما: انطلاق هـذه المقولة من التوسع في دائرة مرجعيات النظم التعليمية، إذ أنها ترى أن المرجعية كما تكون مادة محسوسة مدركة، يمكن أن تكون أيضا أمرا غير مادي ولا محسوس، وليس من شك أن تحديد الدائرة المرجعية يعتبر في حد ذاته أمرا مرجعيا، وشأنا مرجعيا، الأمر الذي يجعلنا ننتهي إلى القول: بأن نفي المرجعية عن النظم بمجرد عدم اعترافها بثنائية المرجعية، أمر يحتاج في حد ذاته إلى إعادة النظر، هـذا من جهة.

ثانيهما: أن ثمة خلطا بين أن تكون المرجعية سديدة صحيحة، أو باطلة، وبين أن لا تكون هـناك مرجعية على الإطلاق، فهذان أمران مختلفان تمام الاختلاف، ولكنهما كثيرا ما يخلط بينهما، وينظر [ ص: 53 ] إليهما كأنهما شيء واحد، فكثير من المحللين ينفون المرجعية عن النظام التعليمي إذا لم تكن له مرجعية صحيحة سديدة (سماوية دينية) ، والحال أن ثمة فرقا بين الوجود والعدم من جهة، وبين الوجود والصحة والبطلان من جهة أخرى.

وعليه، فإننا نرى أن الإصرار على كون المرجعية في حد ذاتها سماوية فقط، هـو الآخر بحاجة إلى إعادة النظر، وذلك لأن المسألة المرجعية في تصورنا أشبه بمسألة الألوهية، نعني أن بعضا من الناس يعبدون آلهة أرضية، ويتدينون بأديان غير سماوية، كما أن بعض الناس (المنافقين والمشركين) يجمعون بين عبادة إله السماء، وآلهة الأرض، وبعض ثالث من الناس لا يعبدون إلا إلها واحدا خالق كل شيء.. ولا يحق لامرئ أن يجادل في هـذا، ولا أن يماري فيه، إذ أنه قد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة كريمات تؤكد هـذا المبدأ، وتنبه المسلمين على التفريق بين مسألة الوجود ومسألة الصحة، فالوجود ليس نقيض صحة، وإنما هـو نقيض العدم، وأما الصحة فإنها نقيض البطلان وليس العدم.

وبنـاء على هـذين الأمـرين، فإن وصف مرجعية بكونهـا مرجعيـة لا دينية، وصف مجازي غير حقيقي، وبدلا منه ينبغي القول: بأن المرجعية باطلة أو قاصرة، وغير سديدة ولا سليمة، وبذلك يسلم لنا [ ص: 54 ] القول بوجود مرجعية دينية (غير سماوية، أرضية) مستبطنة للنظم التعليمية غير الإسلامية، وذلك لأن مجرد استناد النظم في مبادئها وأصولها على المادة أو المدرك المحسوس، واتخاذها ذلك مرجعية، دليل على صدورها عن مرجعية، أيا كانت طبيعة تلك المرجعية وحقيقتها.

وعلى العموم، إن تجاوز المبدأ القائل بوجود نظام تعليمي -سواء كان غربيا أو شرقيا- خلو من المرجعية هـو المنهج العلمي الرصين المتزن، فالنظم التعليمية -عن بكرة أبيها- تصدر عن مرجعية ولكنها غير سماوية (أرضية) ، لأنها مرجعيات مصطنعة، ومادية بحتة، وتعتبر في حسنا الإسلامي قاصرة، وذلك لعجزها عن تقديم حياة السعادة والهناء للأفراد والمجتمعات في الدارين من ناحية، ولأنها تنكرت لكون الوحي مصدرا للمعرفة والقيم الموجهة للعملية التعليمية من ناحية أخرى.

ولئن قبلنا صدور كل نظام تعليمي عن مرجعية، فما هـي مرجعيات النظم التعليمية الغربية والشرقية ؟

- مرجعية النظم التعليمية الغربية

تعتنق النظم التعليمية الغربية الفكرة العلمانية [2] ، وتعترف بها مرجعية موجهة للعملية التعليمية، رسالة وأهدافا.. وتعني علمانية [ ص: 55 ] التعليم، فصل التعليم في جميع مراحله عن المبادئ والقيم الدينية، وعدم الاعتراف بصلاحية الدين، أي دين، لتوجيه العملية التعليمية وإرشادها، وذلك انطلاقا من المبدأ المعكوس الذي يفترض وجود صراع مرير بين الديني والعلمي، وبالتالي لا يمكن أن يجتمعا في شيء واحد في آن واحد، فذكر الديني في البحث العلمي إفساد للروح العلمية، ومدعاة إلى طرح جميع النتائج التي توصل إليها، لذلك فإنه لا بد من إقصاء الديني عن العلمي، ولا حاجة إلى التعرض للقيم التي ينبغي ترسيخها في عقول النشء قبل أن يكبروا !

إن علمانية النظام التعليمي جزء من علمانية الحياة الغربية، التي نشأت هـادفة إلى إقصاء الدين الكنسي وقساوسته عن جميع مرافق الحياة نتيجة تجاوزات الكنيسة، وغلواء قساوستها، يوم أن كانت لهم السطوة والسيطرة على جميع شعاب الحياة الأوربية في قرونها المظلمة، فقد كان هـذا الدين الكنسي، بسبب ما حواه من انحرافات جذرية (... في العقيدة من ناحية، وفي فصل العقيدة عن الشريعة من ناحية أخرى، وفي فساد ممثليه من رجال الدين وجهالتهم من ناحية ثالثة، كان (ذلك الدين) مفسدا للحياة ومعطلا لدفعتها الحية، كما كان مفسدا للعقول، ومعطلا لها عن التفكير السليم، لذلك كان نبذ ذلك الدين والانسلاخ منه أمرا ضروريا لأوربا إذا أرادت أن تتقدم وتتحضر وتعيش) [3] . [ ص: 56 ]

وعليه، فإن صدور النظم التعليمية الغربية عن مرجعية غير سماوية لم يكن أمرا اعتباطيا، وإنما كان رد فعل لتلك الظروف القاسية التي مارست فيها الكنيسة وقساوستها كل ألوان الظلم والاضطهاد والكبت علـى الإنسـان الأوربي باسـم الدين وباسـم الإلـه، حتـى إذا ما سنحت للناس فرصة للتمرد والخروج على تلك الممارسات الشاذة، وبدا بصيص من أمل النهضة والتقدم، رأى الإنسان الأوربي أن الصدور عن مرجعية دينية في أي شيء، سواء كان ذلك الشيء علميا، أو سياسيا، أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، لا بد من أن يعقبه تخلف وتأخر، ولذلك فلا بد من نبذ الدين، ولا بد من التمرد على مرجعيته في توجيه الحياة وتسديدها.

ولئن نبذ الإنسان الأوربي مرجعية الدين، فإنه لم يستطع أن يعيش بلا مرجعية مطلقا، وإنما لاذ بمرجعية أخرى تمثلت في العقل البشري، الذي مورس عليه كل صنوف التحجير والاضطهاد والمصادرة، وبمقدار ما كان هـذا العقل مكبوتا ومحجورا أيام سطوة الكنيسة وغلوائها، فإنه غدا عشية هـزيمة الكنيسة ورجالاتها سيد الموقف، والمرجع الأول والأخير، وصاحب الحق في تفسير كل شيء.

ولئن كان دور المرجعية الدينية في النظم التعليمية بصفة عامة، يقوم على ترسيخ القيم والمبادئ السامية في الأهداف التعليمية وفي العملية التعليمية ذاتها، فإن الفكرة العلمانية قد رأت تجريد النظم [ ص: 57 ] التعليمية من المبادئ والقيم الخلقية، لأنها -في حسها- عوائق للتقدم والتطور في الحياة، ورأت أنه إن كان لا بد من إشراك المبادئ والقيم في تسديد جزء من الحياة الإنسانية وتوجيهها، فلتتخذ من المبادئ والقيم التي مصدرها الطبيعة والنفس البشرية، والتي تتوصل إليها العقول والألباب، وأما تلك التي مصدرها الدين، فلا حاجة إلى إشراكها في أي مرفق من مرافق الحياة، فالدين، أي دين، شأن شخصي لا ينبغي أن تكون له علاقة بالواقع المعيش.

مرجعية النظم التعليمية الشرقية

وأما النظم التعليمية الشرقية ( الشيوعية سابقا) ، فتعتنق هـي الأخرى فكرة المادية الجدلية [4] مرجعية لنظمها التعليمية، وهذه المرجعية صنو العلمانية في صورتها الكلية (وهي عدم الاعتراف بمرجعية الدين) .. وتعني المادية الجدلية، اعتبار المادة الشيء الوحيد الأصيل في هـذا الكون، وعلى أن كل ما في الكون منبثق من المادة ومحكوم بقوانينها، ولا وجود للكون خارج المادة. فالمادة (الطبيعة) هـي الخالق، الذي أنشأ الحياة والإنسان وكل ما يحتوي عليه عالم [ ص: 58 ] الإنسان من أفكار ومشاعر وعواطف.. وبناء على ذلك، فإن هـذه المادة هـي ذاتها المرجعية العليا التي توجه الأهداف والعملية التعليمية في جميع مراحلها.

ولئن كان دور المرجعية في النظام التعليمي يتركز على القيم والمبادئ العليا التي توجه العملية التعليمية، فإن فكرة المادية الجدلية تقوم على تفسير القيم المعنوية تفسيرا تاريخيا ماديا بحتا.. ويعني التفسير التاريخي المادي للمبادئ والقيم، النظر إليها باعتبارها نتاجا لأوضاع المجتمع الاقتصادية السائدة في زمن من الأزمان، وبالتالي فإنها لا قرار ولا ثبات لها، بل هـي تتطور بتطور الوضع المادي، وليست ثمة مبادئ ولا قيم ثابتة أبدية نهائية، ولذلك فلا ينبغي أن تتأسس العملية التعليمية على أي مبدأ أو قيمة، لأن هـذه الأمور كلها متغيرة ومرتبطة بالأوضاع الاقتصادية، وهي كلها من صنع المادة!

وأما نشأة هـذه الفكرة المادية ( الشيوعية ) ، فثمة ظروف مشابهة لظروف نشأة العلمانية في أوربا الغربية، وإن شئت فقل: إنها نشأت رد فعل على الفكرة الرأسمالية التي رفعت من شأن الملكية الفردية، واهتمت بالفرد أكثر من الجماعة، وتأسست على الدفاع عن الملكية الفردية دفاعا لا هـوادة فيه، وبالتالي فقد انطلقت الفكرة الشيوعية معتبرة الملكية الفردية مسئولة عن كل الشرور التي خاضتها البشرية، منذ تركت مرحلة الشيوعية الأولى، حتى دخلت مرحلة الرأسمالية ، [ ص: 59 ] وأنها -أي الملكية الفردية- كانت خلال ذلك التاريخ كله مثار "الصراع الطبقي" الذي يبعث الأحقاد والاضطرابات في المجتمع البشري، وأنه لا بد من إزالتها والرجوع بالناس إلى الملكية الجماعية، التي كانوا عليها في الشيوعية الأولى، لكي تستريح البشرية من الصراعات والأحقاد وتعيش في طمأنينة وسلام.

وهكذا نشأت فكرة المادية الجدلية هـادفة -حسب توهمها- إلى إلغاء الملكية الفردية، وإلغاء مبدأ التدين بجميع صوره، وإلغاء الطبقية حسب مفهومها، وإلغاء الصراع الاجتماعي...الخ. وقد رأت أن هـذه الأحلام الوردية لا يمكن لها أن تتحقق من خلال الاتكال على مرجعية غير المادة، فهي وحدها المرجعية والموئل والملجأ، وما عداها فلا يعدو أن يكون خرافة أو أسطورة. وبناء على ذلك فإن مرجعية النظم التعليمية ينبغي أن تكون هـذه المادة، فالوضع المادي هـو العامل الوحيد الكفيل لتحديد القيم وضبطها، فالقيـم حسب الفكـرة الشيوعية غيـر ثابتـة ولا مستقرة، وتتأثر بالوضع المادي في جميع الأحوال، فكلما تغير الوضع المادي تغيرت القيم، وما ذلك إلا لأن ( العقل الجمعي هـو الذي يضع القيم والنظم والتقاليد والأخلاق.. وهو لا يثبت على حال، يحل اليوم ما حرمه بالأمس، ويحرم غدا ما يحله اليوم) . [ ص: 60 ]

إن الفكرة الشيوعية لم تكتف بمصادرة مرجعية الدين في توجيه العملية التعليمية وحدها، وإنما تأسست -كما أسلفنا- على التنكر لمرجعية الدين في أي شأن من شئون الحياة، بل اعتبرت التدين آفة وكارثة تحل بالأفراد والمجتمعات، وبالتالي فلا بد من إقصاء الدين ليس عن مرافق الحياة الواقعية فحسب، وإنما عن الحياة الشخصية، وذلك لأن الدين، أي دين -في تصورهم- لا يعدو أن يكون انعكاسا وهميا في ذهن الأفراد المتدينين لقوى خارجية موهومة، ولذلك فلا بد من التبرؤ منه جملة وتفصيلا.

أيا ما كان الأمر، فإن ثمة فرقا بين الفكرتين: العلمانية والمادية الجدلية .. فالعلمانية إن أقصت مرجعية الدين في توجيه الحياة وتسديدها، غير أنها لم تقصه عن حياة الأفراد، وإنما اعتبرته شأنا شخصيا للأفراد.. وأما المادية الجدلية فقد رأت ضرورة إقصائها إقصاء تاما، ليس عن مرافق الحياة العملية فحسب، وإنما عن الحياة الشخصية أيضا.. وليس من شك أن كلتـا الفكـرتين أوصلت مجتمعاتهم إلـى ما وصلت إليه من انحلال فكري وخلقي، وتفكك أسري ومجتمعي، نتيجة معارضتهما للفطرة الإنسانية، التي لا يمكن لها في أية مرحلة من مراحل حياتها أن تستغني عن توجيهات باريها وخالقها، الذي يعلم السر وأخفى. [ ص: 61 ]

القارة الإفريقية ومرجعيات النظم الوافدة

لئن ألممنا إلمامة سريعة بمرجعيات النظم التعليمية السائدة، من حيث المحتوى، ومن حيث ظروف النشأة، وتبدى لنا من خلال ذلك تلبس تلك النظم بتلكم المرجعيات تلبسا نابعا عن ظروف وأحوال، فإن الحكمة والمنطق يقضيان أن يكون تبني مرجعيات تلك النظم في أية بقعة منبثق عن معاناة ذات الظروف، ومن معايشة ذات الأحوال.

وإذ ذلك كذلك، فإن علينا أن نتساءل عن: مدى معاناة الأقطار الإفريقية، التي تتبنى هـذه النظم التعليمية بمرجعياتها المختلفة، من ذات الظروف التي تمثلت في تسلط الكنيسة وقساوستها على الإنسان الأوربي، واختلاقها صراعا دمويا بين العلم والدين ؟ بل من حقنا أن نتساءل عن: مدى معايشة دول القارة التي تدعي علمانية نظمها التعليمية وتتبجح بها من ذات الأحوال التي دفعت بالإنسان الأوربي الغربي إلى التمرد على الدين الكنسي، وبالإنسان الأوربي الشرقي إلى تحميل الملكية الفردية كل الشرور والأهوال؟!

ليس ثم من مرية، أن هـذه الأحوال وتلك الظروف، لم يمر بها قطر إفريقي في طول التاريخ وعرضه، ولم يعش الإنسان الإفريقي أوضاعا تشبه تلك الأوضاع التي مر بها الإنسان الأوربي الغربي أو الشرقي، بل يكاد كثير من المؤرخين يذهبون إلى القول: بأن الإسلام قد كان الدين [ ص: 62 ] القيم على حياة جل الشعوب الإفريقية قبل مقدم قوى الاستغلال







[5] ، فقد كانت هـنالك إمبراطوريات ومماليك محكومة بمبادئ وقيم الإسلام الناصعة، بل إن جحافل الجيوش التي قاومت قوى الاحتلال، كانت كلها إسلامية، وانطلقت من مبادئ الإسلام التي تأبى لأتباعه أن يكونوا تبعا لزيد أو عمرو، ولا ترضى بأن يكون لغير الإسلام أي سلطان عليها. [ ص: 63 ]

وبناء على ذلك، فإنه يمكن للمرء أن يقول باطمئنان: بأن الدين الكنسي نفسه دين وافد، وغريب على القارة، بل إن الإنسان الإفريقي ظل لفترة طويلة لا يرى فرقا بين الاستعمار والتنصير ، ذلك لأن التنصير كما يذكر المؤرخون هـو الذي مهد قدوم قوى الاحتلال، وباركها مباركة شديد، وبالتالي فقد أورثت هـذه المساندة الإنسان الإفريقي عقدة تجاه الكنيسة بشكل خاص، وتجاه التعليم الغربي بشكل عام.

وإذ الأمر كذلك، فإن من المؤسف اليوم أن يجد المرء النظم التعليمية في كثير من أقطار القارة -إن لم يكن كل أقطارها- تتبنى مرجعيات النظم التعليمية الغربية أو الشرقية.. والأمر من ذلك أن تجد دولا كثيرة تؤكد على هـذه المرجعيات في دساتيرها العامة والخاصة، دونما تفكير في واقعيتها وملاءمتها لواقع القارة وظروفها الراهنة.. وقد أبعد تبني تلك النظم بمرجعياتها عن العملية التعليمية، المبادئ والقيم الضرورية، التي تعتبر زاد الحضارات وغذاءها، بل لم تعد المدارس والجامعات والكليات والمعاهد العليا المنتشرة في القارة أماكن لتلقين النشء والطلاب قيمة الصدق والعدالة والاستقامة، والرحمة والسماحة والإتقان، والأمانة والوفاء وحب الخير والإيثار، ولذلك فلا غرو أن تغيب هـذه الأخلاق والمبادئ السامية التي تهدي الضال، وترشد المحتار، وتسدد بها الحياة الهانئة المستقرة السعيدة. [ ص: 64 ]

وخلاصة القول: إن صدور النظم التعليمية السائدة في القارة عن فكرة العلمانية أو فكرة المادية الجدلية أمر غير مبرر، وغير منطقي، وذلك لأن القارة -كما أسلفنا- لم تعان من الدين الكنسي، ولا من الملكية الفردية ما عانى منه الغرب أو الشرق، فلئن تخلصت أقطار القارة من الاستعمار، فقد كان ينبغي عليها أن تتخلص من الفكرة العلمانية أو المادية الجدلية، لما لهما من ارتباط وثيق بالاستعمار والاحتلال. وأما أن تتقمص القارة ظروفا وأوضاعا غريبة، وتصدر عن تلك الظروف والأوضاع المفتعلة في بناء نظمها التعليمية، فإن المنطق والذوق يرفضان ذلك أيما رفض، وخاصة أن مؤرخين كثيرين يؤكدون انتشار الهناء والسعادة في أرجاء القارة، يوم أن كانت تصدر عن مرجعية الوحي الإلهي السديد (الإسلام) ، ولذلك فقد كان الأولى بها أن تسترجع تلك المرجعية، وتستهدي بتوجهياتها وتعليماتها بغية إقامة حياة سعيدة.

وعلى كل، فإن صفوة القول هـي: إن مرجعيات النظم التعليمية السائدة، وافدة وغريبة عن الساحة الإفريقية، الأمر الذي يجعل تخلص القارة برمتها منها أمرا يسيرا سهلا، ويجعل استبدال مرجعية قيمة بها، ضرورة واقعية، ومقدمة أساسية لتحقيق حياة أفضل، وتقدم على سائر المجالات. [ ص: 65 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية