الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          نوأ

                                                          نوأ : ناء بحمله ينوء نوءا وتنواء : نهض بجهد ومشقة . وقيل : أثقل فسقط ، فهو من الأضداد . وكذلك نؤت به . ويقال : ناء بالحمل : إذا نهض به مثقلا . وناء به الحمل : إذا أثقله . والمرأة تنوء بها عجيزتها أي تثقلها ، وهي تنوء بعجيزتها أي تنهض بها مثقلة . وناء به الحمل وأناءه مثل أناعه : أثقله وأماله كما يقال ذهب به وأذهبه ، بمعنى . وقوله تعالى : ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال : نوءها بالعصبة أن تثقلهم . والمعنى إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أي تميلهم من ثقلها ، فإذا أدخلت الباء قلت تنوء بهم كما قال الله تعالى : آتوني أفرغ عليه قطرا والمعنى ائتوني بقطر أفرغ عليه ، فإذا حذفت الباء زدت على الفعل في أوله . قال الفراء : وقد قال رجل من أهل العربية : ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه ، فحول الفعل إلى المفاتح ، كما قال الراجز :


                                                          إن سراجا لكريم مفخره تحلى به العين إذا ما تجهره



                                                          وهو الذي يحلى بالعين فإن كان سمع آتوا بهذا فهو وجه ، وإلا فإن الرجل جهل المعنى . قال الأزهري : وأنشدني بعض العرب :


                                                          حتى إذا ما التأمت مواصله     وناء في شق الشمال كاهله



                                                          يعني الرامي لما أخذ القوس ونزع مال عليها . قال : ونرى أن قول [ ص: 376 ] العرب ما ساءك وناءك ، من ذلك ، إلا أنه ألقى الألف ؛ لأنه متبع لساءك ، كما قالت العرب : أكلت طعاما فهنأني ومرأني ، معناه إذا أفرد أمرأني فحذف منه الألف لما أتبع ما ليس فيه الألف ، ومعناه : ما ساءك وأناءك . وكذلك : إني لآتيه بالغدايا والعشايا ، والغداة لا تجمع على غدايا . وقال الفراء : لتنيء بالعصبة : تثقلها ، وقال :


                                                          إني وجدك لا أقضي الغريم وإن حان القضاء     وما رقت له كبدي إلا عصا
                                                          أرزن طارت برايتها     تنوء ضربتها بالكف والعضد



                                                          أي تثقل ضربتها الكف والعضد . وقالوا : له عندي ما ساءه وناءه أي أثقله وما يسوءه وينوءه . قال بعضهم : أراد ساءه وناءه وإنما قال ناءه ، وهو لا يتعدى لأجل ساءه ، فهم إذا أفردوا قالوا أناءه ؛ لأنهم إنما قالوا ناءه ، وهو لا يتعدى لمكان ساءه ليزدوج الكلام . والنوء : النجم إذا مال للمغيب ، والجمع أنواء ونوآن ، حكاه ابن جني ، مثل عبد وعبدان وبطن وبطنان . ، قال حسان بن ثابت ، رضي الله عنه :


                                                          ويثرب تعلم أنا بها     إذا قحط الغيث نوآنها



                                                          وقد ناء نوءا واستناء واستنأى ، الأخيرة على القلب . قال :


                                                          يجر ويستنئي نشاصا كأنه     بغيقة لما جلجل الصوت جالب



                                                          قال أبو حنيفة : استنأوا الوسمي : نظروا إليه ، وأصله من النوء ، فقدم الهمزة . وقول ابن أحمر :


                                                          الفاضل العادل الهادي نقيبته     والمستناء إذا ما يقحط المطر



                                                          المستناء : الذي يطلب نوءه . قال أبو منصور : معناه الذي يطلب رفده . وقيل : معنى النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه ، وهو نجم آخر يقابله من ساعته في المشرق في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما . وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الجبهة ، فإن لها أربعة عشر يوما ، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة . قال : وإنما سمي نوءا ؛ لأنه إذا سقط الغارب ناء الطالع ، وذلك الطلوع هو النوء . وبعضهم يجعل النوء السقوط ، كأنه من الأضداد . قال أبو عبيد : ولم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها . وقال الأصمعي : إلى الطالع منها في سلطانه ، فتقول مطرنا بنوء كذا ، وقال أبو حنيفة : نوء النجم : هو أول سقوط يدركه بالغداة ، إذا همت الكواكب بالمصوح ، وذلك في بياض الفجر المستطير . التهذيب : ناء النجم ينوء نوءا : إذا سقط . وفي الحديث : ثلاث من أمر الجاهلية : الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء . قال أبو عبيد : الأنواء ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها من الصيف والشتاء والربيع والخريف ، يسقط منها في كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر ، ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته ، وكلاهما معلوم مسمى ، وانقضاء هذه الثمانية وعشرين كلها مع انقضاء السنة ، ثم يرجع الأمر إلى النجم الأول مع استئناف السنة المقبلة . وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر قالوا : لا بد من أن يكون عند ذلك مطر أو رياح ، فينسبون كل غيث يكون عند ذلك إلى ذلك النجم ، فيقولون : مطرنا بنوء الثريا والدبران والسماك . والأنواء واحدها نوء . قال وإنما سمي نوءا ؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءا أي نهض وطلع ، وذلك النهوض هو النوء ، فسمي النجم به ، وذلك كل ناهض بثقل وإبطاء ، فإنه ينوء عند نهوضه ، وقد يكون النوء السقوط . قال : ولم أسمع أن النوء السقوط إلا في هذا الموضع . قال ذو الرمة :


                                                          تنوء بأخراها فلأيا قيامها وتمشي     الهوينى عن قريب فتبهر



                                                          معناه : أن أخراها وهي عجيزتها ، تنيئها إلى الأرض لضخمها وكثرة لحمها في أردافها . قال : وهذا تحويل للفعل أيضا . وقيل : أراد بالنوء الغروب ، وهو من الأضداد . قال شمر : هذه الثمانية وعشرون التي أراد أبو عبيد هي منازل القمر ، وهي معروفة عند العرب وغيرهم من الفرس والروم والهند لم يختلفوا في أنها ثمانية وعشرون ، ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها . ومنه قوله تعالى : والقمر قدرناه منازل قال شمر : وقد رأيتها بالهندية والرومية والفارسية مترجمة . قال : وهي بالعربية فيما أخبرني به ابن الأعرابي : الشرطان ، والبطين ، والنجم ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والخراتان ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدم ، وفرغ الدلو المؤخر ، والحوت . قال : ولا تستنيء العرب بها كلها إنما تذكر بالأنواء بعضها ، وهي معروفة في أشعارهم وكلامهم . وكان ابن الأعرابي يقول : لا يكون نوء حتى يكون معه مطر ، وإلا فلا نوء . قال أبو منصور : أول المطر : الوسمي ، وأنواؤه العرقوتان المؤخرتان . قال أبو منصور : هما الفرغ المؤخر ثم الشرط ثم الثريا ثم الشتوي ، وأنواؤه الجوزاء ، ثم الذراعان ، ونثرتهما ، ثم الجبهة ، وهي آخر الشتوي وأول الدفئي والصيفي ، ثم الصيفي وأنواؤه السماكان الأول الأعزل ، والآخر الرقيب ، وما بين السماكين صيف ، وهو نحو من أربعين يوما ، ثم الحميم ، وهو نحو من عشرين ليلة عند طلوع الدبران ، وهو بين الصيف والخريف وليس له نوء ، ثم الخريفي وأنواؤه النسران ، ثم الأخضر ، ثم عرقوتا الدلو الأوليان . قال أبو منصور : وهما الفرغ المقدم . قال : وكل مطر من الوسمي إلى الدفئي ربيع . وقال الزجاج في بعض أماليه وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من قال سقينا بالنجم فقد آمن بالنجم وكفر بالله ، ومن قال سقانا الله فقد آمن بالله وكفر بالنجم . قال : ومعنى مطرنا بنوء كذا أي مطرنا بطلوع نجم وسقوط آخر . قال : والنوء على الحقيقة سقوط نجم في المغرب وطلوع آخر في المشرق ، فالساقطة في المغرب هي الأنواء ، والطالعة في المشرق هي البوارح . قال : وقال [ ص: 377 ] بعضهم : النوء ارتفاع نجم من المشرق وسقوط نظيره في المغرب ، وهو نظير القول الأول ، فإذا قال القائل مطرنا بنوء الثريا ، فإنما تأويله أنه ارتفع النجم من المشرق ، وسقط نظيره في المغرب ، أي مطرنا بما ناء به هذا النجم . قال : وإنما غلظ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها لأن العرب كانت تزعم أن ذلك المطر الذي جاء بسقوط نجم هو فعل النجم ، وكانت تنسب المطر إليه ، ولا يجعلونه سقيا من الله ، وإن وافق سقوط ذلك النجم المطر يجعلون النجم هو الفاعل ، لأن في الحديث دليل هذا ، وهو قوله : من قال سقينا بالنجم فقد آمن بالنجم وكفر بالله . قال أبو إسحاق : وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا ولم يرد ذلك المعنى ومراده أنا مطرنا في هذا الوقت ، ولم يقصد إلى فعل النجم ، فذلك والله أعلم جائز كما جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه استسقى بالمصلى ثم نادى العباس : كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال : إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد وقوعها ، فوالله ما مضت تلك السبع حتى غيث الناس ، فإنما أراد عمر - رضي الله تعالى عنه - كم بقي من الوقت الذي جرت به العادة أنه إذا تم أتى الله بالمطر . قال ابن الأثير : أما من جعل المطر من فعل الله تعالى ، وأراد بقوله مطرنا بنوء كذا أي في وقت كذا وهو هذا النوء الفلاني ، فإن ذلك جائز أي إن الله تعالى قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات . قال : وروى علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في قوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال : يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا . قال أبو منصور : معناه : وتجعلون شكر رزقكم الذي رزقكموه الله التكذيب أنه من عند الرزاق ، وتجعلون الرزق من عند غير الله ، وذلك كفر ، فأما من جعل الرزق من عند الله - عز وجل - وجعل النجم وقتا وقته للغيث ، ولم يجعله المغيث الرزاق رجوت أن لا يكون مكذبا والله أعلم . قال : وهو معنى ما قاله أبو إسحاق وغيره من ذوي التمييز . قال أبو زيد : هذه الأنواء في غيبوبة هذه النجوم . قال أبو منصور : وأصل النوء : الميل في شق . وقيل لمن نهض بحمله : ناء به ؛ لأنه إذا نهض به وهو ثقيل أناء الناهض أي أماله . وكذلك النجم إذا سقط ، مائل نحو مغيبه الذي يغيب فيه ، وفي بعض نسخ الإصلاح : ما بالبادية أنوأ من فلان ، أي أعلم بأنواء النجوم منه ، ولا فعل له . وهذا أحد ما جاء من هذا الضرب من غير أن يكون له فعل ، وإنما هو من باب أحنك الشاتين ، وأحنك البعيرين . قال أبو عبيد : سئل ابن عباس - رضي الله عنه - عن رجل جعل أمر امرأته بيدها ، فقالت له : أنت طالق ثلاثا ، فقال ابن عباس : خطأ الله نوءها ألا طلقت نفسها ثلاثا . قال أبو عبيد : النوء هو النجم الذي يكون به المطر ، فمن همز الحرف أراد الدعاء عليها أي أخطأها المطر ، ومن قال خط الله نوءها جعله من الخطيطة . قال أبو سعيد : معنى النوء النهوض لا نوء المطر ، والنوء نهوض الرجل إلى كل شيء يطلبه ، أراد : خطأ الله منهضها ونوءها إلى كل ما تنويه ، كما تقول : لا سدد الله فلانا لما يطلب ، وهي امرأة قال لها زوجها : طلقي نفسك ، فقالت له : طلقتك ، فلم ير ذلك شيئا ، ولو عقلت لقالت : طلقت نفسي . وروى ابن الأثير هذا الحديث عن عثمان ، وقال فيه : إن الله خطأ نوءها ألا طلقت نفسها . وقال في شرحه : قيل هو دعاء عليها ، كما يقال : لا سقاه الله الغيث ، وأراد بالنوء الذي يجيء فيه المطر . وقال الحربي : هذا لا يشبه الدعاء إنما هو خبر ، والذي يشبه أن يكون دعاء حديث ابن عباس - رضي الله عنهما : خطأ الله نوءها ، والمعنى فيهما لو طلقت نفسها لوقع الطلاق ، فحيث طلقت زوجها لم يقع الطلاق ، وكانت كمن يخطئه النوء فلا يمطر . وناوأت الرجل مناوأة ونواء : فاخرته وعاديته . يقال : إذا ناوأت الرجل فاصبر ، وربما لم يهمز وأصله الهمز ؛ لأنه من ناء إليك ونؤت إليه أي نهض إليك ونهضت إليه . قال الشاعر :


                                                          إذا أنت ناوأت الرجال فلم تنؤ بقرنين     غرتك القرون الكوامل ولا يستوي قرن
                                                          النطاح الذي به تنوء وقرن     كلما نؤت مائل



                                                          والنوء والمناوأة : المعاداة . وفي الحديث في الخيل : ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، أي معاداة لهم . وفي الحديث : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من ناوأهم . أي ناهضهم وعاداهم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية