الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة السابعة والعشرون : في حجية العام المخصص

                        اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا ، ومحل الخلاف فيما إذا خص بمبين ، أما إذا خص بمبهم ، كما لو قال تعالى : ( فاقتلوا المشركين ) إلا بعضهم ، فلا يحتج به على شيء من الأفراد بلا خلاف ، إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج ، وأيضا إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولا ، وقد نقل الإجماع على هذا جماعة منهم القاضي أبو بكر ، وابن السمعاني ، والأصفهاني .

                        قال الزركشي في البحر : وما نقلوه من الاتفاق فليس بصحيح .

                        فقد حكى ابن برهان في الوجيز الخلاف في هذه الحالة ، وبالغ فصحح العمل به مع الإبهام ، واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل هو من المخرج ، والأصل عدمه ، فيبقى على الأصل ، ونعمل به إلى أن نعلم بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام ، وإنما يكون معارضا عند العلم به .

                        قال الزركشي : وهو صريح في الإضراب عن المخصص ، والعمل بالعام في جميع أفراده ، وهو بعيد ، وقد رد الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ، ولا قائل به . انتهى .

                        وقال بعض الشافعية بإحالة هذا محتجا بأن البيان لا يتأخر ، وهذا يؤدي إلى تأخره .

                        وأما إذا كان التخصيص بمبين ، فقد اختلفوا في ذلك على أقوال :

                        الأول : أنه حجة في الباقي ، وإليه ذهب الجمهور ، واختاره الآمدي ، وابن الحاجب ، [ ص: 397 ] وغيرهما من محققي المتأخرين ، وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ; لأن اللفظ العام كان متناولا للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية ، فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ، ولا يرفع التعبد به ، ولو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور ، وهو محال .

                        وأيضا المقتضي للعمل به فيما بقي موجود ، وهو دلالة اللفظ عليه ، والمعارض مفقود ، فوجد المقتضي ، وعدم المانع فوجب ثبوت الحكم .

                        وأيضا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ، ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة ، وشاع ذلك وذاع .

                        وأيضا قد قيل : إنه ما من عموم إلا وقد خص ، وأنه لا يوجد عام غير مخصص ، فلو قلنا : إنه غير حجة فيما بقي للزم إبطال كل عموم ، ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما يثبت بعمومات .

                        القول الثاني : أنه ليس بحجة فيما بقي ، وإليه ذهب عيسى بن أبان ، وأبو ثور ، كما حكاه عنهما صاحب المحصول ، وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق ، وحكاه الغزالي عن القدرية ، قال : ثم منهم من قال يبقى أقل الجمع ; لأنه المتيقن .

                        قال إمام الحرمين : ذهب كثير من الفقهاء الشافعية ، والمالكية ، والحنفية ، والجبائي ، وابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصت صارت مجملة ، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل ، كسائر المجازات ، وإليه مال عيسى بن أبان . انتهى .

                        واستدلوا بأن معنى العموم حقيقة غير مراد مع تخصيص البعض ، وسائر ما تحته من المراتب مجازات ، وإذا كانت الحقيقة غير مرادة ، وتعددت المجازات كان اللفظ مجملا فيها فلا يحمل على شيء منها ، والباقي أحد المجازات فلا يحمل على شيء منها .

                        وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعين أحدها ، وما قدمنا من الأدلة قد دلت على حمله على الباقي فيصار إليه .

                        [ ص: 398 ] القول الثالث : أنه إن خص بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما بقي ، وإن خص بمنفصل فلا ، بل يصير مجملا ، حكاه الأستاذ أبو منصور ، عن الكرخي ، ومحمد بن شجاع الثلجي بالمثلثة والجيم .

                        قال أبو بكر الرازي : كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول في العام : إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ ، وصار حكمه موقوفا على دلالة أخرى من غيره ، فيكون بمنزلة اللفظ ، وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ ، وبين الدلالة من غير اللفظ ، فيقول : إن الاستثناء غير مانع بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى . انتهى .

                        ولا يخفاك أن قوله " سقط الاستدلال باللفظ " مجرد دعوى ليس عليها دليل ، وقوله : وصار حكمه . . إلخ دعوى إلى دعوى ، والأصل بقاء الدلالة ، والظاهر يقتضي ذلك ، فمن قال برفعها أو بعدم ظهورها لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ، ولا دليل أصلا .

                        القول الرابع : إن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى : اقتلوا المشركين ; لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم ، وهو القتل باسم المشركين ، وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام ، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به ، كما في قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ; لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة للسارق فيه ، يمنع من تعلق الحكم ، وهو القطع بعموم اسم السارق ، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ ، وإليه ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي .

                        ويجاب عنه : بأن محل النزاع دلالة اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص ، وهي كائنة في الموضعين ، والاختلاف بكون الدلالة في البعض أظهر منها في البعض الآخر باعتبار أمر خارج لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدال أصلا وظاهرا .

                        القول الخامس : إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ، ولا يحتاج إليه كـ اقتلوا المشركين فهو حجة ; لأن مراده بين قبل إخراج الذمي ، وإن كان يتوقف على البيان ، ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة ، كقوله تعالى : أقيموا الصلاة فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها ، وإليه ذهب [ ص: 399 ] عبد الجبار ، وليس هو بشيء ، ولم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل .

                        القول السادس : أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع ; لأنه المتعين ، ولا يجوز فيما زاد عليه ، هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر ، والغزالي ، وابن القشيري ، وقال : إنه تحكم .

                        وقال الصفي الهندي : لعله قول من لا يجوز التخصيص ألبتة .

                        وقد استدل لهذا القائل : بأن أقل الجمع هو المتيقن ، والباقي مشكوك فيه .

                        ورد : بمنع كون الباقي مشكوكا فيه لما تقدم من الأدلة .

                        القول السابع : أنه يتمسك به في واحد فقط ، حكاه في المنخول عن أبي هاشم ، وهو أشد تحكما مما قبله .

                        القول الثامن : الوقف ، فلا يعمل به إلا بدليل ، حكاه أبو الحسين بن القطان ، وجعله مغايرا لقول عيسى بن أبان ، ومن معه ، وهو مدفوع بأن الوقف إنما يحسن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة ، وليس هناك شيء من ذلك .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية