الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ أصناف الوضاعين الزنادقة:]

123 - قوله: (ص): "والواضعون للحديث أصناف".

قلت: لم يبين ذلك وسائقهم إلى ذلك والهاجم عليه منهم.

[ ص: 851 ] أولا: الزنادقة حملهم على وضعها الاستخفاف بالدين كمحمد بن سعيد المصلوب ، والحارث الكذاب الذي ادعى النبوة، والمغيرة بن سعيد الكوفي وغيرهم.

حتى قال حماد بن زيد : وضعت الزنادقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر ألف حديث رواه العقيلي .

ومن بلايا محمد بن سعيد الدالة على زندقته روايته: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله".

[أصحاب الأهواء:]

الصنف الثاني: أصحاب الأهواء كالخوارج والروافض ومن عمل بعملهم من متعصبي المذاهب كما روى ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه الجرح والتعديل

[ ص: 852 ] عن شيخ من الخوارج أنه كان يقول بعد ما تاب: انظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.

ومن خفي ذلك ما حكاه ابن عدي أن محمد بن شجاع الثلجي كان يضع الأحاديث التي ظاهرها التجسيم وينسبها إلى أهل الحديث بقصد الشناعة عليهم لما بينه وبينهم من العداوة المذهبية. وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم: "استجاز بعض فقهاء أصحاب الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبة قولية. فيقول في ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة، لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ولأنهم لا يقيمون لها سندا".

[من رق دينه:]

الصنف الثالث: من حمله الشره ومحبة الظهور على الوضع من رق دينه من المحدثين فيجعل بعضهم للحديث الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا كمن يدعي سماع من لم يسمع. وهذا داخل في قسم المقلوب.

[من حمله التدين الناشئ عن الجهل:]

الصنف الرابع: من حمله التدين الناشئ عن الجهل وقد ذكره المصنف وتعلقوا بشبه باطلة.

[ ص: 853 ] الشبهة الأولى: أن الحديث الوارد في وعيد من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ورد في رجل معين ذهب إلى قوم وادعى أنه رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم يحكم في دمائهم وأموالهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقتله وقال هذا الحديث.

والجواب عن هذه الشبهة أن السبب المذكور لم يثبت إسناده، ولو ثبت لم يكن لهم فيه متمسك; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

الشبهة الثانية: أن هذا الحديث في حق من كذب على نبينا يقصد به عيبه أو شين الإسلام.

وتعلقوا لذلك بما روي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم قال: فشق ذلك على أصحابه رضي الله عنهم حتى عرف في وجوههم، وقالوا: يا رسول الله قلت هذا ونحن نسمع منك الحديث فنزيد وننقص ونقدم ونؤخر فقال - صلى [ ص: 854 ] الله عليه وسلم -: لم أعن ذلك، ولكن عنيت من كذب علي يريد عيبي وشين الإسلام" .

قال الحاكم : هذا الحديث باطل وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية اتفقوا على تكذيبه وقال صالح جزرة : "كان يضع الحديث".

وقد تجاسر أبو جعفر محمد بن عبد الله الفانتي السلمي فزعم أنه رأى مناما طويلا ساقه في نحو من كراس وفيه قلت: يا رسول الله فهذه الأخبار التي وضعوها عليك قال: "من تعمد علي كذبا يريد به إصلاحا لأمتي أو رفع لهم درجة في الآخرة، فأنا أرحم الخلق به فلا أخاصمه وأشفع له والله أرحم مني، ومن قصد بذلك الكذب وإفساد أمتي وإبطال حقهم، فأنا خصمه ولا أشفع له" انتهى.

وهو كلام في غاية السقوط، إنما أوردته لئلا يغتر به لأنني رأيته في كلام العلامة مغلطاي أورده وقال ينظر فيه.

الشبهة الثالثة: قال الكرامية أو من قال منهم: "إذا كان الكذب في الترغيب والترهيب، فهو كذب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا عليه".

وهو جهل منهم باللسان، لأنه كذب عليه في وضع الأحكام فإن [ ص: 855 ] المندوب قسم منها، وتضمن ذلك الإخبار عن الله تعالى في الوعد على ذلك العمل بذلك الثواب.

الشبهة الرابعة: قالوا: ورد في بعض الطرق من حديث ابن مسعود والبراء بن عازب وغيرهما - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كذب علي متعمدا ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار" .

قالوا: فلتحمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة كما تعين حمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة بالتعمد.

والجواب أن قوله: "ليضل به الناس".

اتفق أئمة الحديث على أنها زيادة ضعيفة.

وأقوى طرقها -ما رواه الحاكم وضعفه من طريق يونس بن بكير عن الأعمش عن طلحة بن مصرف ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

[ ص: 856 ] قال: "وهم يونس في موضعين".

1- أحدهما: أنه أسقط بين طلحة وعمرو رجلا وهو أبو عمار .

2- الثاني: أنه وصله بذكر ابن مسعود - رضي الله عنه - وإنما هو مرسل. وعلى تقدير قبول هذه الزيادة، فلا تعلق بها لهم، ولأن لها وجهين صحيحين:

أحدهما: أن اللام في قوله: ليضل ليست للتعليل، وإنما هي لام العاقبة كما في قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهم لم يلتقطوه لقصد ذلك.

وثانيهما: أن اللام للتأكيد ولا مفهوم لها كما في قوله عز وجل: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم .

لأن افتراء الكذب على الله تعالى محرم مطلقا سواء قصد به الإضلال أو لم يقصده، والله تعالى أعلم.

الصنف الخامس: أصحاب الأغراض الدنيوية كالقصاص والسؤال في الطرقات وأصحاب الأمراء وأمثلة ذلك كثيرة.

الصنف السادس: من لم يتعمد الوضع كمن يغلط فيضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام بعض الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم كما أشار إليه المصنف في قصة ثابت بن موسى .

[ ص: 857 ] وكمن ابتلي بمن يدس في حديثه ما ليس منه كما وقع ذلك لحماد بن سلمة مع ربيبه وكما وقع لسفيان بن وكيع مع وراقه ولعبد الله بن صالح كاتب الليث مع جاره ولجماعة من الشيوخ المصريين في ذلك العصر مع خالد بن نجيح المدائني .

وكمن تدخل عليه آفة في حفظه أو في كتابه أو في نظره فيروي ما ليس في حديثه غالطا.

قال العلائي : "فأشد الأصناف ضررا أهل الزهد كما قال ابن الصلاح وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأما باقي الأصناف كالزنادقة، فالأمر فيهم أسهل لأن كون تلك

[ ص: 858 ] الأحاديث كذبا لا يخفى إلا على الأغبياء وكذا أهل الأهواء من الرافضة والمجسمة والقدرية في شد بدعهم.

وأما أصحاب الأمراء والقصاص، فأمرهم أظهر; لأنهم في الغالب ليسوا من أهل الحديث.

قلت: وأخفى الأصناف القسم الأخير الذين لم يتعمدوا مع وصفهم بالصدق، فإن الضرر بهم شديد لدقة استخراج ذلك إلا من الأئمة النقاد - والله الموفق -.

تنبيه:

الكرامية - بتشديد الراء - نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني وكان عابدا زاهدا إلا أنه خذل كما قال ابن حبان : فالتقط من المذاهب أرداها ومن الأحاديث أوهاها وصحب أحمد بن عبد الله الجويباري ، فكان يضع له الحديث على وفق مذهبه.

قال أبو العباس السراج : "شهدت محمد بن إسماعيل البخاري ودفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها: سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه رفعه: "الإيمان يزيد ولا ينقص" .

[ ص: 859 ] قال فكتب على ظهر كتابه: "من حدث بهذا استوجب الضرب /الشديد والحبس الطويل".

وقد ذكر الحاكم لمحمد بن كرام ترجمة جيدة وذكر أن ابن خزيمة اجتمع به غير مرة وكان يثني عليه.

وكرام المشهور - بتشديد الراء - ضبطه الخطيب وابن ماكولا وابن السمعاني وأبي ذلك متكلم الكرامية أبو عبد الله محمد بن الهيصم في كتابه (مناقب محمد بن كرام ) فقال: "المعروف في ألسنة المشايخ كرام بالفتح والتخفيف".

وزعم أنه بمعنى كرامة أو كريم، قال: ويقال بكسر الكاف على لفظ جمع كريم قال: وهو الجاري على ألسنة أهل سجستان .

قلت: وفي ذلك يقول أبو الفتح البستي فيما أنشده الثعالبي عنه وكذا أنشده عنه العتبي في كتاب اليميني: [ ص: 860 ]

إن الذين بجهلهم لم يقتدوا بمحمد بن كرام غير كرام     الفقه فقه أبي حنيفة وحده
والدين دين محمد بن كرام

وحكى الصلاح الصفدي في ترجمة العلامة صدر الدين بن الوكيل عن قاضي القضاة تقي الدين السبكي أن ابن الوكيل قال: محمد بن كرام بالتخفيف وأنكر ذلك سعد الدين الحارثي وقال: إنما هو بالتثقيل، فاستشهد ابن الوكيل على صحة قوله بالبيت الثاني المذكور، قال: فاتهموه بأنه ارتجله في الحال لاقتداره على النظم، ثم تبين بعد مدة طويلة أن الأمر بخلاف ذلك وأنه صادق فيما نقله.

فقرأت بخط تاج الدين السبكي قال: قرأت بخط ابن الصلاح أن أبا الفتح البستي الشاعر قال في ابن كرام فذكر الشعر - أيضا - والله أعلم -.

التالي السابق


الخدمات العلمية