الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1383 [ 924 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، إلا أنه قال: " "ردها وصاعا من تمر لا سمراء" . .

التالي السابق


الشرح

حديث مالك عن أبي الزناد أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، بروايتهم عن مالك، وأورد مسلم الحديث من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: عن ابن أبي عمر عن سفيان عن أيوب عن ابن سيرين، وأبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن أيوب، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد عن أبي أسامة عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين.

[ ص: 197 ] وفي الباب عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك.

والتصرية في تفسير الشافعي: أن تربط أخلاف الناقة وضرع الشاة ويترك حلبها يوما ويومين حتى يجتمع اللبن ثم تباع فيظنها المشتري كثيرة اللبن ويزيد في ثمنها.

وأصل الكلمة: الحبس والجمع، يقال: صريت الماء وصريته بالتخفيف والتشديد: إذا حبسته وجمعته، وروى اللفظ بعضهم: "لا تصروا الإبل" من صرى يصري إذا جمع، ويروى: "لا تصر الإبل" وأيضا لا تصروا الإبل و [هما] مأخوذان من صر يصر إذا شد وربط [ومنه] الصرة.

وجوز أبو سليمان الخطابي أن يكون أصل مصراة: مصررة، أبدلت إحدى الراءات ياء، كقولهم: تقضى البازي وأصله التقضض.

فإذا عرف المشتري التصرية فهو بالخيار بين أن يمسك، وبين أن يرد ويرد صاعا من التمر; لظاهر الحديث، وبهذا قال مالك وأحمد وأبو عبيد.

وفي مدة الخيار وجهان للأصحاب:

أحدهما: أنه يمتد ثلاثة أيام; لما روي في الصحيح عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن [أبي] هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر" .

وأظهرهما: أنه يكون على الفور كخيار العيب.

[ ص: 198 ] وذكر الثلاث جرى على الغالب; لأن الغالب أنه لا يحصل الوقوف على التصرية فيما دون الثلاث; إذ يحمل النقصان الذي يجده المشتري على اختلاف العلف فيبدل الأيدي والمكان ونحوها، فعلى هذا لو عرف التصرية قبل الثلاث فالخيار على الفور، وعلى الأول: يمتد إلى آخر الثلاث; ولو عرفها في آخر الثلاثة أو بعد انقضائها، فعلى الأول: لا خيار له، وعلى الثاني: يثبت ويكون على الفور.

ثم إن ظهرت التصرية قبل الحلب رد المصراة بحالتها ولا شيء عليه، وإن ظهرت بعد الحلب واللبن باق فلا يكلف المشتري برده معها; لأن ما حدث بعد البيع ملك له وقد اختلطا وتعذر التميز، وحينئذ فيكون الحكم كما لو تلف.

وإن أراد رده فالظاهر أنه لا يكلف البائع أخذه لذهاب طراءته، وإن كان اللبن تالفا رد معها صاعا من بر، والأظهر عند الأصحاب: أنه يتعين التمر ولا معدل عنه، واحتج له بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سمراء" أي: لا يعطي غير التمر، والسمراء: الحنطة، فإن رضي البائع بغير التمر; فالأظهر: الجواز، والظاهر أن الواجب صاع قل اللبن أو كثر.

والمعنى فيه أن اللبن الموجود عند البيع يختلط بالحادث بعده ويتعذر التمييز، وقد يتنازع المتبايعان في القدر الموجود وحينئذ فتولى الشارع تعيين بدل له قطعا للخصومة بينهما، كما جعل دية النفس مائة من الإبل مع اختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف والأخلاق والأوصاف، وسوى بين الأصابع في الدية مع اختلاف منافعها، وأوجب الغرة في الجنين مع اختلاف الأجنة ذكورة وأنوثة، والأرش في الموضحة مع اختلافها في الصغر والكبر .

[ ص: 199 ] وحكم التصرية فيما يحل لبنه من الحيوانات كحكمها في الإبل والغنم وكذلك في الجارية والأتان على الأصح; لأن غزارة لبنهما مقصود أيضا لكن لا يرد معهما شيئا من اللبن على الأظهر، أما في الجارية فإن لبن الآدميات لا يعتاض عنه غالبا، وأما في الأتان فلنجاسته.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا رد بالتصرية بعد الحلب، ولكن يمسكها ويرجع على البائع بالأرش، وعند أبي يوسف يردها ويرد معها قيمة اللبن.

قال أبو سليمان الخطابي: وفي حديث المصراة دليل على أنه لا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن، ولا بشاة في ضرعها لبن; لأنه جعل للبن قسطا من الثمن، فهو كما لو باع لبنا بلبن ومعهما أو مع أحدهما شيء آخر.




الخدمات العلمية