الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 549 ] المسألة السابعة عشرة

              تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد ، وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله فنقول الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هي حق لله تعالى مجردا عن النظر في غير ذلك ، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد ، ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلا قول الله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] فلامتثاله هذا الأمر مأخذان :

              أحدهما : وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى قدرته على قطع الطريق ، وإلى زاد يبلغه ، وإلى مركوب يستعين به ، وإلى الطريق إن كان مخوفا ، أو مأمونا ، وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغررها ، وإلى غير ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية ، أو بالمفسدة .

              فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال ، [ ص: 550 ] وإن تعذر عليه ذلك علم أن الخطاب لم ينحتم عليه .

              والثاني : أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى غافلا ، ومعرضا عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه لا يثنيه عنه إلا العجز الحالي أو الموت آخذا للاستطاعة أنها باقية ما بقي من رمقه بقية ، وأن الطوارق العارضة والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقطه ، أو ليست بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام .

              وهكذا سائر الأوامر والنواهي .

              فأما المأخذ الأول فجار على اعتبار حقوق العباد ; لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعة المشروطة راجع إليها .

              [ ص: 551 ] وأما الثاني : فجار على إسقاط اعتبارها .

              وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط ، ومن الدليل أيضا على صحة هذا المأخذ أشياء .

              أحدها : ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق ، وأن على الله ضمان الرزق كان ذلك مع تعاطي الأسباب أولا كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] .

              وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ طه : 132 ] .

              فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله ، وحق العباد فالمقدم حق الله ، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى والرزق من أعظم حقوق العباد ، فاقتضى الكلام أن من اشتغل بعبادة الله كفاه الله مؤنة الرزق ، وإذا ثبت هذا [ ص: 552 ] في الرزق ، ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة والمفاسد المتوقاة ، وذلك لأن الله قادر على الجميع .

              وقال تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ يونس : 107 ] وفي الآية الأخرى : وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ الأنعام : 17 ] .

              وقال : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] بعد قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] .

              فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه والآيات في هذا المعنى كثيرة .

              [ ص: 553 ] والثاني : ما جاء في السنة من ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه الحديث فهو كله نص في ترك الاعتماد على الأسباب ، وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله .

              [ ص: 554 ] وأحاديث الرزق والأجل كقوله : اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد .

              وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد : إن يكنه ، فلا تطيقه .

              وقال : جف القلم بما أنت لاق .

              وقال : لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح ، فإن لها [ ص: 555 ] ما قدر لها .

              وقال في العزل : ولا عليكم أن لا تفعلوا ، فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة .

              وفي الحديث : المعصوم من عصم الله .

              وقال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة .

              [ ص: 556 ] إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب ، وأنها لا تملك شيئا ولا ترد شيئا ، وأن الله هو المعطي والمانع ، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى .

              والثالث : ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم ، فقد قام - عليه الصلاة والسلام - حتى تفطرت قدماه .

              [ ص: 557 ] [ ص: 558 ] وقال : أفلا أكون عبدا شكورا .

              وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف من قومه حين تمالئوا على إهلاكه ولكن الله عصمه ، وقال الله له : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الآية [ التوبة : 51 ] .

              وقال له : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله [ الأحزاب : 48 ] .

              فأمره باطراح ما يتوقاه ، فإن الله حسبه .

              وقال : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [ الأحزاب : 39 ] .

              [ ص: 559 ] وقال قبل ذلك : وكان أمر الله قدرا مقدورا [ الأحزاب : 38 ] .

              وقال هود عليه السلام لقومه ، وهو يبلغهم الرسالة : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله الآية [ هود : 55 - 56 ] .

              وقال موسى وهارون عليهما السلام : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [ طه : 45 ] .

              فقال الله لهما : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ طه : 46 ] .

              وكان عبد الله ابن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] ولكنه كان بعد ذلك يقول : إني أعمى لا أستطيع أن أفر فادفعوا إلي اللواء ، وأقعدوني بين الصفين فيترك ما منح من الرخصة ، ويقدم حق الله على حق نفسه .

              وروي عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا فلما أمروا بالهجرة ، وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه ولا تكليف بما لا يطاق قال لبنيه : إني أجد حيلة ، فلا أعذر احملوني على سرير فحملوه فمات بالتنعيم ، وهو يصفق يمينه على شماله ، ويقول : هذا لك ، وهذا لرسولك . الحديث .

              [ ص: 560 ] وعن بعض الصحابة أنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي أحدا فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي ، أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ، ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ، وفي النقل من هذا النحو كثير .

              وقد مر منه في فصل الرخص والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية .

              فإن قيل : إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة أعني ما كان منها عائدا إلى مصالح العباد ، وهذا غير صحيح ; لأن الشارع وضعها ، وأمر بها واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه والتابعون [ ص: 561 ] بعده ، وهى عمدة ما حافظت عليه الشريعة .

              وأيضا فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس ، وسائر الضروريات المراعاة في كل ملة .

              ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات فكيف يقال : إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد ، وإن كانت واجبة ؟ هذا مما لا يستقيم في النظر .

              وأيضا فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ البقرة : 195 ] .

              وقوله : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقرة : 197 ] .

              وقوله : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الآية [ الأنفال : 60 ] .

              وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يستعد الأسباب لمعاشه ، وسائر أعماله من جهاد وغيره ، ويعمل بمثل ذلك أصحابه والسنة الجارية في الخلق الجريان على العادات ، وما تقدم لا يقتضيه ، فلا بد من صحة أحدهما ، وإن صح بطل الآخر وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه والترجيح من غير دليل تحكم .

              [ ص: 562 ] فالجواب أن ما تقدم لا يدل على اطراح الأسباب ، بل يدل على تقديم بعض الأسباب خاصة ، وهى الأسباب التي يقتضيها حق الله تعالى على الأسباب التي تقتضيها حقوق العباد على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه فليس بين ذلك ، وبين أمره - عليه الصلاة والسلام - بالأسباب واستعماله لها تعارض ، ودليل ذلك إقراره - عليه الصلاة والسلام - فعل من اطرحها عند التعارض ، وعمله - عليه الصلاة والسلام - على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة ، وندبه إلى ذلك كما تبين في الأحاديث المتقدمة .

              وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب ، هذا جواب الأول .

              وأما الثاني فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت ، وإنما فسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب ، وبيان ذلك في فصل الرخص والعزائم ، وإذا كان كذلك فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض .

              وأيضا فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب التحسينات ، وقد مر أن أصل التحسينيات خادم للضروريات ، وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الإخلال بالضروريات ، وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل فلأجل هذا كله قد يسبق إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد ، وهو نظر فقهي صحيح مستقيم في النظر .

              [ ص: 563 ] وأما الثالث ، فلا معارضة فيه ، فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله أصلا ، وإذا لم تدل عليها لم يكن فيها معارضة أصلا ، وإلى هذا كله ، فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى ، فإنه إذا شق عليه الصوم مثلا لمرضه ولكنه صام فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها ، وإدامة الحضور فيها ، أو ما أشبه ذلك عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه فلم يكن له ذلك .

              فأما إن لم يكن كذلك فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة ، بل هو الأحق على الإطلاق ، وهذا فقه في المسألة حسن جدا ، وبالله التوفيق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية