الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر أدلة بعض ما تقدم :

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد ، والشيخان ، عن عروة بن الزبير قال : «كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة- رضي الله تعالى عنها- وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رجب ؟ قال : نعم . فقلت لعائشة : أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت : وما يقول ؟ ، قلت يقول : اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رجب ؟ فقالت : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر في رجب وما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده وما اعتمر في رجب قال : وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم . سكت» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان والدارقطني عن مجاهد بن جبر قال : دخلت أنا وعروة المسجد فإذا ابن عمر جالس إلى جنب حجرة عائشة فسألناه كم اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ قال أربعا إحداهن في رجب فكرهنا أن نرد عليه وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة فقال عروة : يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت وما يقول ؟ قال يقول : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع مرات إحداهن في رجب قالت رحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا وهو معه ، وما اعتمر في رجب قط .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن سعد ، عن أنس قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته : عمرة من الحديبية أو [ ص: 446 ] زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته» .

                                                                                                                                                                                                                              ولفظ البخاري ، عن قتادة- رحمه الله تعالى- قال : قلت لأنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- كم اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ قال : أربعا : عمرته التي صده عنها المشركون عن البيت من الحديبية من ذي القعدة وعمرته- من العام المقبل- حين صالحوه في ذي القعدة ، وعمرته الجعرانة حين قسمت غنيمة حنين في ذي القعدة ، وعمرته مع حجته» .

                                                                                                                                                                                                                              قوله : عمرته بالنصب بدل من أربع بدل بعض من كل ، ويجوز رفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : هي عمرته وكذا الباقي .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمر» فذكر نحوه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، والثلاثة ، وحسنه الترمذي ، وابن سعد ، عن محرش الكعبي : «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرا ، فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ، ثم خرج عن ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت ، فلما زالت الشمس من الغد خرج من بطن سرف حتى جاء مع الطريق ببطن سرف فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس» ، وفي لفظ : «على كثير من الناس» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، ومسدد ، عن ابن عمرو- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة ، يلبي حتى يستلم الحجر ، ولفظ مسدد ، كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة ، عن البراء- رضي الله تعالى عنه- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر قبل أن يحج» . وفي رواية له ، وأبي يعلى ، وأحمد «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : «لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة ، فقسم بها الغنائم ، ثم اعتمر منها ، وذلك من ليلتين بقيتا من شوال» . [ ص: 447 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى أحمد بن منيع- برجال ثقات- عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعا ، إحداهن في رجب» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي- وحسنه- وابن ماجه ، وابن سعد ، والبيهقي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر ، عمرة الحديبية ، وهي عمرة الحصر ، وعمرة القضاء من قابل ، وعمرة الجعرانة ، والرابعة مع حجته» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد ، عن سعيد بن جبير- رحمه الله تعالى- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عام الحديبية من ذي القعدة واعتمر عام صالح قريشا في ذي القعدة واعتمر مرجعه من الطائف في ذي القعدة من الجعرانة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن ماجه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- ، وعائشة ، قال : «قالا : لم يعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد ، عن ابن أبي مليكة- رحمه الله تعالى- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر كلها في ذي القعدة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى- أيضا- عن عامر الشعبي- رحمه الله تعالى- عنه ، قال : «لم يعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عمرة قط إلا في ذي القعدة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى- أيضا- عن ابن جريج ، عن عطاء- رحمهما الله تعالى- قال : «عمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلها في ذي القعدة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى- أيضا- عن عكرمة- رحمهما الله تعالى- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر في ذي القعدة ، قبل أن يحج» .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : والله سبحانه وتعالى أعلم قال في الهدي : عمره- صلى الله عليه وسلم- كلها كانت في أشهر الحج ، مخالفة لهدي المشركين ، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ، ويقولون : هي أفجر الفجور . [ ص: 448 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال ابن القيم : لم يحفظ عنه- صلى الله عليه وسلم- أن اعتمر في السنة إلا مرة واحدة ، وقد ظن بعض الناس أنه اعتمر في سنة مرتين ، واحتج بما رواه أبو داود في «سننه» عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين : في ذي القعدة وعمرة في شوال ، قالوا : وليس المراد بهذا ذكر مجموع ما اعتمره فإن أنسا وعائشة ، وابن عباس وغيرهم ، قد قالوا : إنه اعتمر أربع عمر ، فعلم أن مرادها أنه اعتمر في سنة مرتين . مرة في ذي القعدة ، ومرة في شوال ، وهذا الحديث وهم وإن كان محفوظا عنها فإن هذا لم يقع قط ، وتقدم بيان عمره ، ومتى وقعت ، فمتى اعتمر في شوال ، ولكن لقي العدو في شوال وخرج فيه من مكة وقضى عمرته لما فرغ من أمر العدو ، وفي ذي القعدة ليلا ولم يجمع ذلك العام بين عمرتين لا قبله ولا بعده ، ومن له عناية بأيامه ، وسيرته ، وأحواله ، لا يشك ولا يرتاب في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال : في «زاد المعاد» : لم يقل أحد من أهل العلم ، أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر من التنعيم بعد حجه ، وإنما يظنه العوام ومن لا خبرة له بالسنة .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال فيه أيضا : غلط من قال : إنه لم يعتمر في حجته أصلا ، والسنة الصحيحة المستفيضة التي لا يمكن ردها تبطل هذا القول .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال فيه أيضا غلط من قال : إنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرة حل منها ثم أحرم بعدها بالحج من مكة ، والأحاديث الصحيحة تبطل هذا القول وترده .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : روى البخاري ، عن البراء بن عازب- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود ، عن مجاهد ، قال : سئل ابن عمر : اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال : مرتين فقالت عائشة : لقد علم ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع .

                                                                                                                                                                                                                              قال في «زاد المعاد» أراد العمرة المفردة المستقلة التي تمت ولا ريب أنهما اثنتان ، فإن عمرة القران لم تكن مستقلة ، وعمرة الحديبية صد عنها وحيل بينه وبين إتمامها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال في موضع آخر : «لا يناقض حديث ابن عمر- أي السابق- قوله : «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرن بين الحج والعمرة» ، لأنه أراد العمرة الحاصلة المفردة .

                                                                                                                                                                                                                              ولا ريب أنهما عمرتان : عمرة القضاء ، وعمرة الجعرانة ، وعائشة أرادت العمرتين المستقلتين : فإن عمرة القران ، لم تكن مستقلة وعمرة الحديبية صد عنها ، ولا ريب أنها أربع [ ص: 449 ] السابع : قول أنس : اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر كلهن في ذي القعدة ، إلا التي كانت مع حجته قال في «زاد المعاد» :

                                                                                                                                                                                                                              وهذا لا يناقض ما تقدم عن عائشة ، وابن عباس وغيرهما ، أي أنهن كلهن في ذي القعدة ، لأن مبدأ عمرة القران في ذي القعدة ونهايتها كان في ذي الحجة مع انقضاء الحج ، فعائشة ، وابن عباس أخبرا عن ابتدائها وأنس أخبر عن انقضائها .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : قول عروة ، عن ابن عمر : أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يعتمر في رجب ، قال في «الهدي» : هو غلط ، فإن عمره- صلى الله عليه وسلم- مضبوطة محفوظة ، لم يخرج في رجب إلى شيء منها .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع : روى أبو حاتم : وابن حبان «أن عمرة القضاء كانت في رمضان ، وعمرة الجعرانة ، كانت في شوال ، قلت : ذكر أبو حاتم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان معتمرا عام الفتح ، وذلك في رمضان» .

                                                                                                                                                                                                                              قال المحب الطبري : ولم أر ذلك لأحد غيره والمشهور : أن عمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : روى الدارقطني ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : «خرجت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في عمرة في رمضان ، فأفطر ، وصمت وقصر وأتممت ، الحديث» . قال في «زاد المعاد» : هذا الحديث غلط ، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر في رمضان قط ، وعمره مضبوطة العدد ، والزمان ، ونحن نقول : يرحم الله أم المؤمنين : ما اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رمضان قط ، وقد قالت : - رضي الله تعالى عنها- «لم يعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة . كما رواه ابن ماجه ، وغيره ، ولا خلاف أن عمره- صلى الله عليه وسلم- لم تزد على أربع ، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا ، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستا إلا أن يقال :

                                                                                                                                                                                                                              بعضهن في رجب ، وبعضهن في رمضان وبعضهن في ذي القعدة ، وهذا لم يقع ، وإنما الواقع اعتماره في ذي القعدة كما قال أنس ، وابن عباس ، وعائشة- رضي الله تعالى عنهم- .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : روى أبو داود ، في «سننه» وابن سعد في «طبقاته» واللفظ له ، في عمرة الجعرانة حين خرج في شوال ، ولكن إنما أحرم بها في ذي القعدة ، قلت : قالابن سعد حدثنا ابن سابق التميمي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير عن عتبة مولى ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أنه قال : «لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ، ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال . وقال ابن القيم في موضع آخر : هذا أي اعتماره- صلى الله عليه وسلم- في شوال وهم ، والظاهر والله تعالى أعلم ، أن بعض الرواة غلط في هذا ، وأنه اعتكف في شوال فقال إنه اعتمر في شوال لكن سياق الحديث ، وقوله اعتمر ثلاث عمر عمرة في شوال ، وعمرتين في ذي القعدة ، يدل على أن عائشة ، أو من دونها إنما قصد العمرة» . [ ص: 450 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية