الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما ما روي عن الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ مما ذكر، فلم نعثر على أي سند له ـ صحيحا كان السند أو ضعيفا ـ ولكن ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء.
وأما جملة: وهو الآن على ما عليه كان. فهي زيادة موضوعة من بعض أهل البدع، ولم تثبت في شيء من كتب الحديث، وهذا باتفاق المحدثين.
قال الحافظ ابن حجر: وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث. فتح الباري. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه الزيادة وهو قوله: وهو الآن على ما عليه كان. كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق وليس هو في شيء من دواوين الحديث ـ لا كبارها ولا صغارها ـ ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد ـ لا صحيح ولا ضعيف ـ ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمة الجهمية فتلقاها منهم هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهم - وهو التعطيل والإلحاد. مجموع الفتاوى.
وبذلك يتضح أن هذه الزيادة إنما تكلم بها بعض أهل البدع القائلين بنفي صفات الله ونفي استوائه سبحانه على عرشه، بحجة أنه سبحانه قد كان ولا عرش موجود، فاستواؤه على عرشه بعد ذلك يقتضي التغير والتحول، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على أولئك، فقال ـ رحمه الله: وهذه الزيادة الإلحادية وهو قولهم: وهو الآن على ما عليه كان. قصد بها المتكلمة المتجهمة نفي الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا وغير ذلك فقالوا: كان في الأزل ليس مستويا على العرش وهو الآن على ما عليه كان فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير. ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين معروفين:
أحدهما: أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش: بمنزلة المعية ويسميها ابن عقيل الأحوال، وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض من المسلمين وغيرهم، إذ لا يقتضي ذلك تغيرا ولا استحالة.
والثاني: أن ذلك وإن اقتضى تحولا من حال إلى حال ومن شأن إلى شأن فهو مثل مجيئه وإتيانه ونزوله وتكليمه لموسى وإتيانه يوم القيامة في صورة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص وقال به أكثر أهل السنة والحديث وكثير من أهل الكلام وهو لازم لسائر الفرق.
وقال أيضا: وإذا قالوا: كان الله قبل خلق الأمكنة والمخلوقات موجودا وهو الآن على ما عليه كان لم يتغير ولم يكن هناك فوق شيء ولا عاليا على شيء فكذلك هو الآن.
قيل: هذا غلط ويظهر فساده بالمعارضة ثم بالحل وبيان فساده.
أما الأول: فيلزمهم أن لا يكون الآن عاليا بالقدرة ولا بالقدر كما كان في الأزل، فإنه إذا قدر وجوده وحده فليس هناك موجود يكون قادرا عليه ولا قاهرا له ولا مستوليا عليه ولا موجودا يكون هو أعظم قدرا منه، فإن كان مع وجود المخلوقات لم يتجدد له علو عليها ـ كما زعموا ـ فيجب أن يكون بعدها ليس قادرا لشيء ولا مستوليا عليه ولا قاهرا لعباده ولا قدره أعظم من قدرها، وإذا كانوا يقولون هم ـ وجميع العقلاء ـ إنه مع وجود المخلوق يوصف بأمور إضافية لا يوصف بها إذا قدر موجودا وحده علم أن التسوية بين الحالين خطأ منهم، وقد اتفق العقلاء على جواز تجدد النسب والإضافات مثل المعية، وإنما النزاع في تجدد ما يقوم بذاته من الأمور الاختيارية، وقد بين في غير هذا الموضع أن النسب والإضافات مستلزمة لأمور ثبوتية وأن وجودها بدون الأمور الثبوتية ممتنع، والإنسان إذا كان جالسا فتحول المتحول عن يمينه بعد أن كان عن شماله قيل إنه عن شماله، فقد تجدد من هذا فعل به تغيرت النسبة والإضافة، وكذلك من كان تحت السطح فصار فوقه فإن النسبة بالتحتية والفوقية تجدد لما تجدد فعل هذا.
وإذا قيل نفس السقف لم يتغير قيل قد يمنع هذا ويقال: ليس حكمه إذا لم يكن فوقه شيء كحكمه إذا كان فوقه شيء.
وإذا قيل عن الجالس إنه لم يتغير قيل: قد يمنع هذا ويقال: ليس حكمه إذا كان الشخص عن يساره كحكمه إذا كان عن يمينه، فإنه يحجب هذا الجانب ويوجب من التفات الشخص وغير ذلك ما لم يكن قبل ذلك.
وكذلك من تجدد له أخ أو ابن أخ بإيلاد أبيه أو أخيه قد وجد هنا أمور ثبوتية، وهذا الشخص يصير فيه من العطف والحنو على هذا الولد المتجدد ما لم يكن قبل ذلك وهي الرحم والقرابة.
وبهذا يظهر الجواب الثاني وهو أن يقال: العلو والسفول ونحو ذلك من الصفات المستلزمة للإضافة وكذلك الاستواء والربوبية والخالقية ونحو ذلك، فإذا كان غيره موجودا فإما أن يكون عاليا عليه وإما أن لا يكون كما يقولون هم: إما أن يكون عاليا عليه بالقهر أو بالقدر أو لا يكون خلاف ما إذا قدر وحده فإنهم لا يقولون إنه حينئذ قاهر أو قادر أو مستول عليه فلا يقال إنه عال عليه، وإن قالوا: إنه قادر وقاهر كان ذلك مشروطا بالغير وكذلك علو القدر قيل: وكذلك علو ذاته ما زال عاليا بذاته، لكن ظهور ذلك مشروط بوجود الغير، والإلزامات مفحمة لهم، وحقيقة قولهم إنه لم يكن قادرا في الأزل ثم صار قادرا، يقولون لم يزل قادرا مع امتناع المقدور وإنه لم يكن الفعل ممكنا فصار ممكنا، فيجمعون بين النقيضين. مجموع الفتاوى.
وأما الجواب عن سؤال السائل: أين كان ربنا قبل أن يخلق العرش؟ فقد ورد في سنن الترمذي وابن ماجه ومسند أحمد عن أبي رزين قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء. حسنه الترمذي. العماء: السحاب. وانظر الفتوى رقم: 31848.
ولا تعارض بين كون العرش إظهارا لعظمة الله، وبين ثبوت استوائه سبحانه على عرشه، وإنما المنفي في حقه سبحانه أن يكون محتاجا إلى المكان أو أن يكون المكان محيطا به ومحتويا له، فإن الله جل وعلا مستغن عن خلقه، وكل خلقه فقير إليه، كما أنه سبحانه أعظم من أن يحيط به شيء من خلقه، ولا يلزم من استوائه على العرش أي محذور من ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لفظ المكان قد يراد به ما يكون الشيء فوقه محتاجا إليه، كما يكون الإنسان فوق السطح، ويراد به ما يكون الشيء فوقه من غير احتياج إليه، مثل كون السماء فوق الجو، وكون الملائكة فوق الأرض والهواء، وكون الطير فوق الأرض، ومن هذا قول حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه: تعالى علوا فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما.
مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غنى عن كل ما سواه وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه وهو لا يحتاج إلى شيء، وقد أثبت له مكانا، والسلف والصحابة، بل النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع مثل هذا ويقر عليه، كما أنشده عبدالله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا، وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا، وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا، في قصته المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء لما وطئ سريته ورأته امرأته فقامت إليه لتؤذيه، فلم يقر بما فعل، فقالت: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقرأ الجنب القرآن؟ فأنشد هذه الأبيات، فظنت أنه قرآن، فسكتت، وأخبر صلى الله عليه وسلم فاستحسنه.
والله أعلم.