أمه تجادله في الدين بغير علم فيثور عليها

0 283

السؤال

يا شيخي العزيز: يعتريني الخجل والعار، لما سأستفتيكم فيه، فأنا شاب أحب النقاش والتحاور في شتى المواضيع، لتكوين فكرة ورأى في كل المواضيع، وأحاور الأصدقاء والأهل وأحاول أن أتقيد بأسلوب الحوار السليم، ولكن عندما تحاورني أمي لا أدري كيف يبدأ الحوار؟ ولا كيف ينتهي؟ فالصوت يكون عاليا إلى درجة الصراخ ـ في بعض الأحيان ـ وأنا والله أندم على كل مرة أفعل فيها هذا الفعل المشين، ولكن والدتي ـ سامحها الله ـ تستفزني كثيرا بشتى الطرق، حتى إنها لا تتقبل النصيحة وتقف مع الباطل ضدي، ففي مرة من المرات حاولت إقناعي بأن الأعراس المختلطة ليست بحرام وأن الإثم لا يقع أغلبه على العريس الذي يوافق على هذه الأمور، وأنا ـ يا شيخي ـ أناشدكم كيف أهدأ في النقاش مع والدتي؟ وكيف أنصحها؟ وهل يجوز لها أن تعارضني في الأمور القطعية الثابتة بالقرآن والسنة؟ علما بأنني أكن لأمي كل المحبة والمودة، إلا وقت النقاش أفقد أعصابي.
أشكركم وأرجو من الله أن يهدي قلبي لبر والدي.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فابتداء ننبهك على أنه ينبغي التفريق بين الحوار الهادئ الذي يعود على أصحابه بالفائدة والعلم وتصويب الأخطاء ونحو ذلك، وبين مجرد الجدل العقيم الذي يقسي القلب ويوقع العداوة والبغضاء في النفوس.

فالأول: محمود شرعا وعرفا، لأنه من جنس التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر.

والثاني: مذموم شرعا وعرفا ويشتد إثمه وقبحه إذا اشتمل على محرم ـ كالقول على الله بغير علم أو إبطال حق أو إحقاق باطل أو تحريم حلال أو تحليل حرام أو تفاخر بالعلم والاطلاع وسعة المعرفة ونحو ذلك ـ فهذه كلها أغراض مذمومة فاسدة وإن كان بعضها أقبح من بعض، وقد روى أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية: ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون.

وقد بينا طرفا من ذلك في الفوى رقم: 50912.

أما ما تفعله أمك من جدال في أمور الدين والحلال والحرام بغير علم: فهذا غير جائز وهو إثم عظيم، كما بيناه في الفتوى رقم: 128208، ولكن هذا لا يسوغ لك رفع صوتك عليها ولا الصراخ في وجهها، فهذا حرام بلا خلاف ـ بل هو كبيرة من كبائر الذنوب ـ لأنه من العقوق، قال ابن الصلاح في بيان حد العقوق: وأما أن العقوق ما هو؟ فإنا قائلون فيه العقوق المحرم: كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة.

انتهى.

وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري: وقال الشيخ تقي الدين السبكي ـ رحمه الله: إن ضابط العقوق إيذاؤهما بأي نوع كان من أنواع الأذى ـ قل أو كثر نهيا عنه أو لم ينهيا ـ أو يخالفهما فيما يأمران أو ينهيان بشرط انتفاء المعصية في الكل.

انتهى.

وقد نهى الله سبحانه عن مجرد التأفيف للوالدين، فقال سبحانه: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا {الإسراء: 23-24}.

ولا شك أن حق الأم في البر والإحسان فوق حق الأب، فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله: من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب.

حسنه الألباني.

واعلم أن حق الوالدين على ابنهما باق متأكد ولو كانا عاصيين، بل ولو كانا مشركين يدعوانه إلى الشرك بالله والكفر به، فعليه حينئذ أن يصاحبهما بالمعروف، قال سبحانه: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا {لقمان:15}.

فعليك أن تتقي الله في حق أمك وأن تستغفر لذنوبك السالفة من الإساءة إليها والتفريط في حقوقها واجعل كفارة ذلك أن تتحللها مما كان منك فيما مضى، ثم تبالغ في برها والإحسان إليها والصبر عليها مستقبلا، فإن بدر منها خطأ شرعي أو مخالفة أو جدال بغير علم فردها في ذلك برفق ولين وأدب وتوقير، فإن أصرت ولم تستجب لك فأمسك عن جدالها ونقاشها، واعلم أن الإنكار على الوالدين ليس كالإنكار على غيرهما من الناس ذكر القرافي ـ رحمه الله ـ في كتابه الفروق: أن الوالدين يؤمران بالمعروف وينهيان عن المنكر، قال مالك: ويخفض لهما في ذلك جناح الذل من الرحمة.

انتهى.

وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: فصل في أمر الوالدين بالمعروف ونهيهما عن المنكر: قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر، وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يعلمه بغير عنف ولا إساءة ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه وليس الأب كالأجنبي.

انتهى.

وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 76303، 68973، 43378.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة