السؤال
كيف أنسى الماضي وأعمالا سيئة وجرائم وأرجع إلى الله سبحانه وتعالى؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمهما أسرف الإنسان على نفسه وارتكب من الجرائم فليعلم أن الله تعالى رحيم بعباده لطيف بهم، وأنه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يغفر الذنوب مهما عظمت لمن تاب منها مخلصا صادقا في توبته، كما قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم { الزمر:53}.
فإن كنت قد أسرفت على نفسك، أو تكرر منك فعل الذنوب وكثر فلا تيأسي من روح الله، ولا تقنطي من رحمة الله، بل ارجعي إليه وتوبي توبة نصوحا صادقة مستوفية لشروطها من الإقلاع فورا عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العودة إليه، ورد الحقوق لأصحابها إن كان الذنب متعلقا بحق آدمي، وأما كيفية نسيان الماضي فيكون بالمجاهدة وإدامة الإعراض عن تذكره، لكننا ننبه هنا إلى مسألة تعرض لها أهل السلوك، وهي هل الأولى للتائب أن يذكر ذنبه ويديم الفكر فيه، أو الأولى له أن ينساه ويعرض عن تذكره، وقد فصل العلامة ابن القيم هذا الخلاف، فقال رحمه الله: وأما نسيان الجناية فهذا موضع تفصيل، فقد اختلف فيه أرباب الطريق، فمنهم من رأى الاشتغال عن ذكر الذنب والإعراض عنه صفحا، فصفاء الوقت مع الله تعالى أولى بالتائب وأنفع له، ولهذا قيل: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، ومنهم من رأى أن الأولى أن لا ينسى ذنبه، بل لا يزال جاعلا له نصب عينيه يلاحظه كل وقت، فيحدث له ذلك انكسارا وذلا وخضوعا، أنفع له من جمعيته وصفاء وقته، قالوا: ولهذا نقش داود الخطيئة في كفه، وكان ينظر إليها ويبكي، قالوا: ومتى تهت عن الطريق فارجع إلى ذنبك تجد الطريق، ومعنى ذلك: أنك إذا رجعت إلى ذنبك انكسرت وذللت، وأطرقت بين يدي الله عز وجل، خاشعا ذليلا خائفا، وهذه طريق العبودية، والصواب التفصيل في هذه المسألة، وهو أن يقال: إذا أحس العبد من نفسه حال الصفاء غيما من الدعوى، ورقيقة من العجب ونسيان المنة، وخطفته نفسه عن حقيقة فقره ونقصه، فذكر الذنب أنفع له، وإن كان في حال مشاهدته منة الله عليه، وكمال افتقاره إليه، وفنائه به، وعدم استغنائه عنه في ذرة من ذراته، وقد خالط قلبه حال المحبة، والفرح بالله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، وشهود سعة رحمته وحلمه وعفوه، وقد أشرقت على قلبه أنوار الأسماء والصفات، فنسيان الجناية والإعراض عن الذنب أولى به وأنفع، فإنه متى رجع إلى ذكر الجناية توارى عنه ذلك، ونزل من علو إلى أسفل، ومن حال إلى حال، بينهما من التفاوت أبعد مما بين السماء والأرض. انتهى.
والله أعلم.