الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يصلح بينكم وأن يؤلف بين قلوبكم، واعلم أن المسلم لا يجوز له هجران أخيه المسلم بسبب مال يفنى عما قريب، ففي الحديث: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. رواه البخاري ومسلم.
ويتأكد الأمر في حق الأرحام، ويتعين عليهم البدار بالصلح لينالوا الخير والمغفرة التي وعد الله بها، فقد قال الله تعالى: والصلح خير { النساء:128}.
وقال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما { النساء:114}.
وفي الحديث: تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا. رواه مسلم.
وأما الانقطاع عن صلتهم مدة عام فهو محرم؛ لما في الحديث: لا يدخل الجنة قاطع. رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث الآخر: لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا. رواه مسلم.
وقد فسر الشراح القطع بترك الصلة والإحسان والبر بالأقارب، كذا قال النووي وغيره، وقال عياض: أدنى الصلة ترك المهاجرة والصلة بالكلام ولو بالسلام.
فينبغي لك أن تبادر بصلتهم وتدفع إساءتهم بالتي هي أحسن، فإن ذلك مما يجلب المودة والعز والكرامة والاحترام لصاحبه، فقد قال الله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. { فصلت: 34 }.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. رواه مسلم.
ويشرع لك أن تطلب حقك بالحسنى، فإن تعسر ذلك ولم يكن من بد من الخيار بين الخصومة والقطيعة وبين التنازل أو التغاضي عن بعض حقك أو أن تدفع لهم مبالغ.. فالذي نراه لك أن تختار دفع المال طلبا لمرضاة الله وصلة للرحم ودفعا لمفسدة الدين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة. رواه الترمذي وصححه، وأبو داود وأحمد، وصححه الألباني.
قال المناوي في فيض القدير: أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر، أو المراد المزيلة لمن وقع فيها، لما يترتب عليه من الفساد والضغائن، وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير، حتى أبيح فيه الكذب، وكثرة ما يندفع من المضرة في الدنيا والدين بتشتت القلوب ووهن الأديان من العداوات وتسليط الأعداء وشماتة الحساد، فلذلك صارت أفضل الصدقات. اهـ.
فإن آثرت صلة رحمك بدفع مالك ومقابلة الإساءة بالإحسان، فسيجلب ذلك لك معية الله وعونه ونصره لك والبسط لك في الرزق، فقد قال رجل: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. رواه مسلم.
وقال ـ أيضا ـ صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه. متفق عليه.
وواظب على التعوذات المأثورة، وثق أنك إذا اتقيت الله فيهم وصبرت على أذاهم فإنه لن يضرك كيدهم، فالله جل وعلا يقول: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا {آل عمران: 120}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن اتقى الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل، ولم يتعد حدود الله، وصبر على أذى الآخر وظلمه لم يضره كيد الآخر، بل ينصره الله عليه .انتهى
وإذا أردت اجتناب مشاكلهم فقم بالواجب من صلتهم وعدم قطعهم ولو أن تتصل بهم بالهاتف والسؤال عنهم والسلام عليهم ولا حرج عليك بعد ذلك، قال القاضي عياض: وصلة الأرحام درجات بعضها أفضل من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب، ومنها مستحب، فلو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لم يسم قاطعا، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لم يسم واصلا. انتهى.
أما بخصوص أثر هجر الرحم الواجب صلتها على قبول العمل من عدمه، فراجع الفتوى رقم: 62260.
والله أعلم.